إحراج جديد ترميه الولايات المتحدة الأميركية على لبنان. توجيه الدعوة للمشاركة في قمة وارسو، لبحث سبل مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة. هذا سيضع لبنان أمام انقسام سياسي حاد، مجدداً. وينقسم الرأي العام في البلد بين مؤيد لهذه القمّة ومعارض للمشاركة فيها. ثمة من يعتبر أن لا بد من المشاركة في هذا الائتلاف الدولي، لمواجهة نفوذ إيران في المنطقة، والذي يؤثر بشكل مباشر على لبنان، بل ويربطه بعرقلة تشكيل الحكومة. في المقابل، هناك وجهة نظر أخرى، ترفض قطعياً أي مشاركة، انسجاماً مع شعار النأي بالنفس، ولا يمكن للبنان معاداة أي من دول المنطقة، بما فيها إيران. كما لا يمكنه المشاركة في اجتماع سيكون حاضراً فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
عقوبات أشد
إتجاه لبنان سيكون إلى مقاطعة هذه القمّة. وبلا شك، أي إجراء من هذا النوع، سيرتبط بتداعيات سياسية بين لبنان وبعض الدول، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية. إلا أن هناك من يُظهر تفهّماً لعدم مشاركة لبنان، أولاً بسبب العداء مع إسرائيل، وثانياً لاعتبارات داخلية متعددة لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها. وهي بالتأكيد ستضع البلاد على فوهة انقسام سياسي، قد يعيد المشهد بشكل أو بآخر إلى ما قبل العام 2008. لا سيما في ضوء حماسة بعض القوى إلى استعادة خطاب تلك المرحلة التي انطلقت في العام 2005، انسجاماً مع الهجمة الدولية على إيران، ورهاناً على إمكانية تغيير الوقائع على الأرض.
جزء من هذه الأجواء، كان في فحوى زيارة وكيل الخارجية الأميركية ديفيد هيل، والذي تضمّنت لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين لهجة تحذيرية، حول وجوب التصدي لأنشطة حزب الله، وإيران من خلفه، واستعداد واشنطن لتطبيق العقوبات المالية القاسية على حزب الله، والتي لن تقتصر على مسؤولين في الحزب فقط، بل ستطال شخصيات من خارج الطائفة الشيعية، محسوبة على الحزب، أو لديها علاقات جيدة معه.
الابتزاز مالياً وإسرائيلياً
لم يقدّم الزائر الأميركي أي خطّة واضحة لمواجهة حزب الله وإيران. اكتفى بالرسائل التحذيرية، التي تنطوي على وجوب تبني لبنان لموقف واضح من التطورات. وبالتالي، عليه إما أن يكون إلى جانب أميركا أو إلى جانب إيران. وخروجه على الإرادة الأميركية قد يؤدي إلى اتخاذ إجراءات بحقه، كمثل ترك لبنان لمواجهة مصيره، بشتى المجالات المالية، والعسكرية والحدودية، خصوصاً أن اللهجة الأميركية تنطلق من استمرارية العدو الإسرائيلي في تكريس أمر واقع، لا مفرّ منه عند الحدود، بدءاً بملف الأنفاق وليس انتهاءً بملف التنقيب عن النفط، وما بينهما من ترسيم للحدود، والتعدّي الإسرائيلي الواضح على الأراضي اللبنانية. وكأن المعادلة المطروحة أصبحت في خانة، إما أن يسير لبنان وفق ما تريد له واشنطن، أو أن التسوية الحدودية والتنقيب عن النفط سيكونان بعيدين. وسيكون لإسرائيل حرّية حركة نسبية، ليست بالضرورة أن تتطور إلى حرب.
الأحصنة الخاسرة
لا شك أن الموقف الذي تنطلق منه واشنطن في الضغط على إيران وحلفائها، محكوم براهنيته أو حدثيته، ربطاً بعدم حصول اتفاق (ومفاوضات) بين الطرفين. وبالتالي، تريد واشنطن حشد خصوم إيران، لإجبارها على الذهاب إلى مفاوضات وإبرام اتفاق شامل معها. ما يعني، أنه في اللحظة التي سيتم التوصل فيها إلى اتفاق بين واشنطن وطهران، ستعود الأمور وكأن شيئاً لم يكن، على غرار ما حدث في العام 2015، إبان توقيع الاتفاق النووي بين الجانبين.
أثبتت التجربة مع الأميركيين في لبنان، أن أي تصعيد سياسي يتم الإيحاء به من قبلهم، تكون نتائجه عكسية. حصل هذا طوال سنوات "ثورة الأرز"، إذ تعرّض حلفاء واشنطن إلى نكسات كبرى. ففي اللحظة التي يحتاجون فيها إلى الدعم الأميركي، كانت واشنطن تغيب عن السمع. بينما مقابل هذا التصعيد الأميركي الشكلي والمعنوي، كان حزب الله وإيران يتشددان أكثر، ويسعيان إلى تحقيق المزيد من المكتسبات السياسية، وصولاً إلى وضع لبنان في خانة السيطرة الإيرانية التامة هذه الأيام. وبالتالي هناك من يخشى تكرار السيناريو السابق ذاته هذه المرّة. وتداعياته ستكون أقوى على الواقع اللبناني، خصوصاُ إذا ما خلص شدّ الحبال الأميركي الإيراني إلى اتفاق بين الجانبين، حينها سيكون من ارتكزت عليهم واشنطن أحصنة خاسرة.
ما من فارق بين ديفيد هيل والسفير الأميركي الأسبق في لبنان جيفري فيلتمان، الذي كان من أشد المحرضين على حزب الله، والداعمين لقوى 14 آذار، ولكن مع مرور الأيام، وانتهاء ظاهرة 14 آذار سياسياً، تبيّن أن فليتمان كان أحد أبرز منظرّي وداعمي ومفاوضي عملية التفاوض الإيراني الأميركي، للوصول إلى الإتفاق النووي. ديفيد هيل في الأساس لم يكن مقتنعاً بنظرية 14 آذار، ولا يقيم لها أي أهمية، ولا بد لنتائج حراكه أن تكون أكثر تدميرية، لمن قد يتحمّس مجدداً للرهان على الأميركيين، من دون وجود أي خطّة واضحة، وأي إرادة فعلية للمواجهة.