في كتابه الجديد «قصتي... 50 قصة في خمسين عاماً» الذي قرأت مقتطفات منه نشرتها جريدة «الشرق الأوسط»، وتابعت بعض لمحاته التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، استوقفني ما قاله حاكم دبي، ورئيس مجلس وزراء دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن راشد عن بيروت.
يقول: «أذهلتني صغيراً، وعشقتُها يافعاً، وحزنت عليها كبيراً (…) حلم تردد في ذهني أن تكون دبي كبيروت يوماً ما». درجت العادة أن يتحسر اللبنانيون على بيروتهم ولبنانهم وأن يقارنوا هم بين ما صارته باريس الشرق، وما صارته دبي. درجت العادة أن يتمنى اللبنانيون لو أن بيروتهم تصير «دبي»، بخدماتها وحداثتها وصخبها البلا ضجيج، حتى كدنا ننسى أي المدن هي بيروت. أي المدن كانتها بيروت.
مزيج من الحب والإعجاب والغبطة والحسرة، هو شعور معظم اللبنانيين تجاه دبي وتجربتها الرائدة. كانت عبارة «عبر بيروت» هي الجملة التي تختصر موقع هذه المدينة كعقدة مواصلات واتصالات بين العالم والعالم. كل شيء يمر في بيروت. خطوط الطيران، الموضة، المطاعم، السياسة، الأفكار، والثقافة. وكان بديهياً أن تبهر مدينة بهذه المواصفات الشاب الطامح محمد بن راشد المتفتح وعيه على تجربتين عميقتين في التنمية والتقدم قادهما الراحلان الشيخ راشد آل مكتوم حاكم دبي السابق، والشيخ زايد آل نهيان عبقري الوحدة الإماراتية ومرسي نهج النماء الذي تهتدي به الإمارات اليوم.
في مكان ما، سيرة دبي هي سيرة بيروت المقتولة. ولاحقاً سيرة بيروت الممنوعة مع رفيق الحريري. هل تتصوروا أن الشيخ محمد كان يبني «دبي» وعيونه على ألا يسبقه رفيق الحريري إلى الإنجاز؟ هذه عبارة منقولة عن الشيخ محمد ولا يقولها إلا رجل بلا عقد... لذلك لا يرى اللبنانيون «دبي» بعيون الآخرين. يرونها بعيون ما فاتهم. بولع من طوت السنين مجده ووهجه. بعيون القتيل في لحظاته الأخيرة وهو يرى الحياة تنسل منه بعيداً... بعيداً.
فمواسم الحسرة كثيرة في لبنان ولا تحتاج إلى تخصيب الذاكرة بأكثر ما فيها. لا تقرأوا أننا دمرنا هذه المدينة معاً، بتكافل وتضامن غير مسبوقين في أي ملف من ملفات لبنان الشائكة. وأننا هدمنا الهياكل على الآلهة جميعاً حتى بتنا في أقاصي وحشة النفس البشرية.
لا تقرأوا كتاب محمد بن راشد قبل أن نتجرأ على الإجابة عن أسئلة نزار قباني الحارقة في قصيدته «يا ست الدنيا يا بيروت».
تواطأ نزار معنا حباً حين جهل الفاعل في أسئلة المطلع:
يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ… مَنْ باعَ أسواركِ المشغولةَ بالياقوتْ؟ من صادَ خاتمكِ السّحريَّ، وقصَّ ضفائركِ الذهبيّهْ؟ من ذبحَ الفرحَ النائمَ في عينيكِ الخضراوينْ؟ من شطبَ وجهكِ بالسّكّين، وألقى ماءَ النارِ على شفتيكِ الرائعتينْ؟
من سمّمَ ماءَ البحرِ، ورشَّ الحقدَ على الشطآنِ الورديّهْ؟ ها نحنُ أتينا... معتذرينَ... ومعترفينْ أنّا أطلقنا النارَ عليكِ بروحٍ قبليّهْ. فقتلنا امرأة... كانت تُدعى الحريّهْ
لا تزال هذه الأسئلة راهنة وضرورية قبل أن نعيد التبحر في مذكرات الأمل.
المحزن أكثر أن تقرأ كلام الشيخ محمد عن بيروت، في بيروت ثم تلتفت إلى نشرات الأخبار... تلتفت إلى أن فريقاً في لبنان قرر أن يعيد إنتاج أسوأ حقبات لبنان الميليشياوي، بسبب التنافس مع رئيس الجمهورية والتنافس مع شركائه داخل بيئته بعد انتخابات نيابية وضعته في مصاف ممثل ثلث الطائفة في أحسن الحالات.
مساء حين كان اللبنانيون يتناقلون الكلمات البراقة عن بيروت المبهرة، كانت إحدى المحطات التلفزيونية تبث بيانات لفصيل مسلح مرتجل يهدد ويتوعد بالويل والثبور والسلاح والقتل وفتح القبور إذا ما سمح لممثلي الحكومة الليبية أن يحضروا القمّة العربيّة التنمويّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، بحجة عدم كشف مصير الإمام موسى الصدر، الذي اختفى في ليبيا صيف عام 1978 حين كانت ليبيا تحت حكم معمر القذافي!!
ثم أفاق اللبنانيون على قرار وزير الخارجية في حكومة الوفاق الليبية الامتناع عن المشاركة، أما السبب فهو العجب.
أولاً منع سلطات الأمن في مطار بيروت رجال أعمال ليبيين مشاركين في القمة من الدخول، بحسب جريدة «الأخبار» المقربة من الفريق الذي يقوده «حزب الله»، واحتجاجاً على إهانة العلم الليبي الذي أحرقه مناصرو رئيس مجلس النواب نبيه بري في بيروت أمس.
وكشفت الصحيفة أنه كان مقرراً أن يعمد الأمن العام إلى منع دخول الوفد الليبي إلى المطار، بحجة «منع دخول أي طرف يؤدي إلى مشكلات أمنية، ومن حرصه على حماية الوفود المشاركة في القمة». قرار «إداري» خلافاً للقرار السياسي بدعوة ليبيا والإصرار على مشاركتها، وانسجاماً مع توجيه سياسي لمرجعية سياسية في البلد لم تنجح عبر الشارع في فرض وجهة نظرها فقررت استخدام سطوتها على مؤسسة من مؤسسات النظام العام!!
يحصل كل ذلك في ظل خضوع شبه تام لباقي الأطراف السياسية، إن كان على مستوى التوازن السياسي أو المؤتمنين على حماية الدولة.
مفاعيل «السابع من مايو (أيار)» مستمرة، وفي ظلها لا تقرأوا محمد بن راشد.