أكثر فأكثر يتضح عدم الاختلاف في السياسة الأميركية، تجاه المنطقة، ما بين إدارة دونالد ترامب وإدارة باراك أوباما. عناوين الزيارات الأميركية إلى المنطقة واضحة. وهي ليست أكثر من مجرد زيارات روتينية، يجريها المسؤولون الأميركيون، لشرح سياساتهم وطمأنة حلفائهم، من دون وجود أي خطّة جدّية، لتأمين الحماية التي يدعيها الأميركيون لحلفائهم في المنطقة. لكن الروتينيات الأميركية، تأتي في سياق تصعيد إسرائيلي واضح في المنطقة بمواجهة إيران، لا سيما في سوريا ولبنان.
سلوك إسرائيلي مختلف
هي المرة الأولى التي يعلن فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بشكل رسمي، استهداف إسرائيل لمخازن صواريخ لإيران في سوريا. وهذه تزامنت مع توتر لبناني إسرائيلي على الحدود الجنوبية، على خلفية اعتداء إسرائيلي على الأراضي اللبنانية، وخرق الخطّ الأزرق. واللافت هذه المرة، هو إصرار الإسرائيلي على تشييد الجدار العازل في نقاط مختلف عليها، بينما سابقاً لم يكن الإسرائيليون يستمرون في عملهم عند تقديم أي اعتراض لبناني. ما حدث في الأيام الأخيرة، أوحى أن الإسرائيليين انتهجوا سلوكاً مختلفاً، هو عدم الإمتثال لأي اعتراض، لا بل الإصرار على متابعة الأعمال.
الجولة التي يقوم بها وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، ديفيد هيل، على المسؤولين اللبنانيين، لا توحي بوجود خطّة أميركية جديدة، حسب ما تشير مصادر التقت هيل. وتكشف المصادر أن هيل لم يطرح أي عناوين جديدة أو مقاربة مختلفة، بل اكتفى بالتأكيد على الثوابت الأميركية، المرفوعة تجاه لبنان، وما تناوله، مع من التقاهم، انحصر في خانة ضرورة تشكيل الحكومة، بشكل لا يظهر غلبة حزب الله، والوصول إلى تسوية حدودية برية وبحرية.. بالإضافة إلى مواكبة ملف العقوبات على حزب الله وإيران.
على هامش بومبيو
لا يوحي الكلام الأميركي بوجود خطط عملانية لملئ أي فراغ، أو لوضع رؤية للمواجهة. ما يشعر به الأميركيون هو نوع من الإرباك في التعاطي مع الحلفاء، والأطراف الذين يفترضون هم أنهم في صفوفهم.
إذاً، هذه الجولة تقع في سياق الزيارات المتواترة للأميركيين إلى لبنان، تزامناً مع جولة وزير الخارجية مايك بومبيو إلى المنطقة. وربما لا يحتل لبنان أولوية أميركية لزيارته من قبل وزير الخارجية، بل يكفيه موظف في الخارجية. مهمته هي إبلاغ اللبنانيين بنتائج الجولة وأهدافها، والتي تندرج في سياق طمأنة الحلفاء لا أكثر، على قاعدة أن الأميركيين لا يريدون إخلاء المنطقة لصالح إيران. ولذلك، يتخذون إجراءات وتدابير مع حلفائهم لسد الفراغ، الذي قد ينتج عن الإنسحاب الأميركي. هنا يتدخل الإسرائيلي لتكريس معادلات جديدة. وتعود واشنطن إلى التلويح بقطع الطريق الإيراني الواصل من طهران إلى بيروت، عبر العراق وسوريا. لذا، عاد الحديث الأميركي عن تأجيل الإنسحاب من التنف.
الإسرائيلي بدوره ينتهز هذه المرحلة لإطلاق يده في مناطق التنازع. هذا مسار بدأ يتضح، انطلاقاً من إثارة موضوع الأنفاق، وعبر تغيير المعادلة على الأرض بما يتعلّق بملف الحدود وبملف النفط (الحدود البحرية). وعلى الرغم من أن لا مصلحة للأميركيين في أي توتر على الحدود الجنوبية، إلا أنهم يوحون للإسرائيليين أن لا اعتراض على إستفادتهم من الوضع القائم، وتكريس أمر واقع مختلف، من دون التورط في مواجهة شاملة، على نحو يحشر الدولة اللبنانية، ويؤسس للمرحلة المقبلة التي ستتخللها مفاوضات لتسوية حدودية برية وبحرية.
لا مواجهة
هنا يبقى السؤال الأساسي عن حجم الضغوط والرسائل الأميركية التي وصلت إلى دوائر القرار العليا في لبنان، لثني لبنان عن القيام بأي ردة فعل عنيفة، ضد هذه التحركات الإسرائيلية.
ما يقوله الأميركيون يندرج في إطار إثبات الحضور، وطمأنة الحلفاء، رغم إعلان خطة الإنسحاب من سوريا، مع التأكيد على بقائهم بشكل أو بآخر، إنما من دون وجود خطّة واضحة للمرحلة المقبلة. وهم يحرصون على علاقاتهم مع مختلف القوى المحلية، خصوصاً في ظل العلاقات الوثيقة التي تربطهم بالجيش والمؤسسات الأخرى. ولا يخرج عن السياق الروتيني، تكرار التصريحات الأميركية عن موجبات التحذير والتشديد، حيال تطبيق القرارات الدولية، وثوابت مكافحة الإرهاب، والحفاظ على الإستقرار ومؤسسات الدولة، وعدم إطلاق يد حزب الله إلى حدّ بعيد.
لا يوحي ترامب بأي خطة واضحة للمنطقة. وهو ليس رجل حرب، خصوصاُ أن من يعلن الإنسحاب من سوريا، بالطريقة التي حصلت، يؤكد الإستمرار في الاستراتيجية الأميركية، القائمة على عدم التورط في تفاصيل المنطقة، ولا التورط في حروبها، مقابل تعزيز سياسة الإحتواء في التعامل مع مختلف الأطراف، عبر التلاعب على التناقضات.
في ظل كل التطورات في المنطقة، فإن لبنان سيحال إلى رفوف التأجيل، خصوصاً أن أي مؤشر جدّي لمواجهة حزب الله لا يبدو موجوداً، طالما لا تتوفر لدى السياسة الأميركية أي منهجية واضحة. فبعض الآراء في واشنطن تعتبر أن أي إجراء يُتخذ ليؤذي حزب الله، لا بد أن يكون مؤذياً للبنان. وهذه مسألة غير مطروحة على الإطلاق. وهذا يعكس رغبة بالمحافظة على بقاء الوضع اللبناني على ما هو عليه.
من الواضح أن الأميركيين لا يتعاطون مع الملفات بالمفرق. خرجت السياسة الأميركية من لعب دور تفصيلي في دول المنطقة، وهذا يبدو واضحاً من العراق إلى سوريا ولبنان. وهذا أساس ارتكزت عليه واشنطن منذ مفاوضات الإتفاق النووي مع إيران. فلم تعد تقوم السياسة الأميركية في المنطقة على حلفاء يجب دعمهم في مختلف البلدان والمجتمعات، سواء كانت سلطوية أم معارضة. تكتفي واشنطن الآن بالعلاقة مع دول أساسية أو مع محاور إقليمية، ولا تنظر أو تتعب نفسها في التفاصيل.