المسيحيون اليوم هم في أفضل وضع سياسي منذ العام 1990، اي تاريخ انتهاء الحرب والشروع في تطبيق الدستور الجديد، المنبثق من وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ«اتفاق الطائف»، فلا حرب إلغاء سياسية على الفريق السيادي منهم على غرار ما كان عليه الوضع بين عامي 1990 و2005، واستعادوا تمثيلهم الفعلي في رئاسة الجمهورية ومجلسي النواب والوزراء، ونغمة الإحباط ولّت من قاموسهم.
ومن هنا واجب التمييز بين وضع الجماعة المسيحية بتمثيلها وحضورها داخل الدولة ومؤسساتها، وبين الوضع السياسي في البلد الذي لم يتبدّل منذ العام 1990 إلى الآن لجهة فقدان الدولة القرار السيادي على أرضها وفي قراراتها ومواقفها، ولكن ما تحقق ليس بقليل على مستويين: التخلُّص من نظام الوصاية السوري الذي كان يستهدف القوى المسيحية السيادية، واستعادة التمثيل الفعلي داخل المؤسسات.
وعدم جواز الاستهانة بما تحقق سببه انّ «المتراس» لخوض المعركة الوطنية او خطوط التماس انتقل من داخل المعتقلات ومن وراء بحار النفي والإبعاد إلى داخل المؤسسات، وهذا ليس تفصيلاً، وما هو غير تفصيلي أيضاً انّ معركة السيادة كانت مسيحية الطابع في زمن الوصاية، ولكنها تحوّلت اليوم وطنية الطابع، وبالتالي لم تعد مقتصرة على جماعة واحدة بل على معظم الجماعات.
وبمعزل عن التبريد السياسي الذي تشهده جبهتا 8 و 14 آذار نتيجة وصولهما إلى اقتناع بأنّ المواجهة لن تمكِّن أحدهما من الحسم ضد الآخر، إلّا انّ مضمون المواجهة لم يتبدل ولم يعالج، ما يعني انّ المشكلة ما زالت نفسها لجهة تغييب الدولة وحضورها ودورها، ولكن ما هو مستجدّ في المشهد السياسي يكمن في النزاع بين الثنائية الشيعية ورئيس الجمهورية ميشال عون، الأمر الذي يدفع إلى تسليط الضوء على ثلاث نقاط أساسية:
ـ النقطة الأولى الثابتة التي لا يمكن القفز فوقها، هي انّ منطق الدولة ومنطق الثورة لا يلتقيان، يمكن أن يتساكنا لمرحلة معينة قد تطول وقد تقصر، إلّا انّ المواجهة بينهما حتمية.
ـ النقطة الثانية، هي أنّ هناك مَن راهنَ يوماً ما على تناقض مشروع العماد ميشال عون مع وصوله إلى رئاسة الجمهورية مع مشروع «حزب الله»، والتناقض يكون محسوباً بالنسبة الى الطرفين فلا يصل إلى حدود الخلاف، ولكن في الوقت نفسه لا يستمر التحالف على الإيقاع نفسه بين عون المرشح وعون الرئيس.
ـ النقطة الثالثة، أنّ المواجهة بين عون و«حزب الله» أعادت إحياء النظرية التي سادت في مرحلة الفراغ الرئاسي، وهي انّ الحزب لا يريد انتخاب عون رئيساً تجنّباً للصدام معه، لأنّ اي ممارسة دولتية لعون ستضعه عاجلاً أم آجلاً في مواجهة الحزب، فيما عون الحليف سيبقى حليفاً نظراً لحاجته إلى هذا التحالف من أجل تحقيق هدفه الرئاسي.
ويدرك الحزب انه يتعامل مع شخصية تمثيلية ليست في حاجة إليه لانتزاع شرعيتها داخل بيئتها أو الفوز في الانتخابات النيابية بأصواته، بل ذهبت في الانتخابات الأخيرة إلى عدم تبنّي مرشحه في دائرة كسروان-جبيل، كذلك يتعامل مع شخصية تَولّت سلطة في زمن الجمهورية الأولى، والمواجهة بينهما وقعت نتيجة تناقض الأهداف بين المرحلتين الأولى والثانية، ففي المرحلة الأولى كانت المقايضة قائمة على أساس ان يدعم الفريق الأول سلاح الثاني مقابل ان يدعم الثاني وصول الأول إلى رئاسة الجمهورية، بينما في المرحلة الثانية أصبحت المقايضة على الشكل الآتي:
يتمسّك عون وقت الحاجة وفي مواقف تذكيرية بدعمه لسلاح الحزب وربط حلّه بأزمة المنطقة، فيما على الحزب أن لا يعرقل مسيرة عون داخل الدولة بالحد الأدنى، وان يدعم دوره على هذا المستوى بالحد الأقصى.
فالمعادلة في المرحلة الأولى كانت لمصلحة «حزب الله» الذي يُسلِّف عون «شيكات» بلا رصيد ويقبض «كاش»، فيما المعادلة اختلفت في المرحلة الثانية حين أصبحت كلفة دعم عون تقوية الدولة ومؤسساتها، الأمر الذي يتناقض مع منطقي الدولة والثورة.
فالدعوة إلى الاجتماع التشاوري والوجداني الذي دعت إليه بكركي يأتي إذاً في ظل فراغ حكومي واهتزاز «تفاهم مار مخايل» وغياب الاشتباك المسيحي، من دون ان يكون هناك أي تفاهم سياسي، وشعور بأنّ هناك محاولة لتعديل الدستور عن طريق تكريس أعراف جديدة تشكل بديلاً من التعديل على وقع تحولات في المنطقة مع المواجهة المفتوحة بين واشنطن وطهران، وزيارة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي المرتقبة إلى الولايات المتحدة الاميركية.
وإذا كان البطريرك بحاجة الى مشهد ماروني جامع عشيّة سفره، وهذا ضروري من اجل إنجاح جولته، ولكن من دون الانتقاص من حرصه الدائم على توحيد الصف المسيحي مدخلاً لتوحيد الصف اللبناني وتعزيز الدور الوطني المسيحي، وتعبيره الثابت عن القلق الوطني والسيادي والمعيشي، فإنّ رئيس الجمهورية بحاجة إلى موقف داعم من طائفته يعزّز وضعه في المواجهة المضمرة مع الثنائي الشيعي، فيما الأساس يبقى في خروج اللقاء ببيان ختامي يذكّر بالنصوص المرجعية للمسيحيين التي تبدأ بالدستور وضرورة الالتزام به، مروراً بالقرارات الدولية والشرعية العربية، وصولاً إلى ثوابت الكنيسة المارونية في الحريات العامة والتعددية والتنوع والعيش المشترك والديموقراطية ودور لبنان و«النأي بالنفس» وأحادية السلاح في أيدي القوى الشرعية، وفي طليعتها الجيش اللبناني.
فلا وزن وطنياً لأي اجتماع ماروني ما لم تتم العودة فيه إلى الجذور المؤسسة للكيان اللبناني والثوابت التي لا تتبدل مع تبدل الظروف، وبالتالي يفترض ان يكون اللقاء الماروني تحت سقف «ثوابت الكنيسة المارونية» الصادرة عن البطريركية المارونية في 6 كانون الأول 2006، و«شرعة العمل السياسي» الصادرة عن كنائس لبنان مجتمعة في 5 آذار 2009، و«المذكرة الوطنية» الصادرة عن البطريرك الراعي عشيّة عيد مار مارون في 8 شباط 2014، ووثائق ومذكرات أخرى تؤكد المضمون نفسه المتّصل بمعنى لبنان التاريخي وجوهر عيشه المشترك ودور الدولة وحدها الناظم للحياة السياسية والمدافع عن السيادة الوطنية.
ولأنّ اجتماع الموارنة، وأيّ اجتماع آخر، لن يبدّل في مسار الأوضاع، خصوصاً انّ المواقف السياسية مختلفة وأنّ أحداً ليس في وارد تسليف أحد مواقف يمكن ان تصرف ضده مستقبلاً، فمن الضروري الخروج ببيان تاريخي يُظهر تَعلّق الموارنة بلبنان التاريخي ومواصلة سعيهم إليه، وبعد التذكير بالثوابت الوطنية يصبح مشروعاً الكلام عن ضرورة إنهاء الفراغ الحكومي ووضع خطة إنقاذ اقتصادية ومكافحة الفساد (...)، والضغط لتعجيل العودة إلى الانتظام المؤسساتي.
فالمشترك بين الموارنة يجب ان يكون ثوابتهم التاريخية بعيداً من محاور النزاع الداخلية والخارجية القابلة للتبدّل وفقاً للمصالح والظروف، فلا تزكية لفلان على علّان لأنه ماروني، إنما التزكية تكون لأيّ فريق سياسي يقترب من هذه الثوابت التي هي في نهاية المطاف ثوابت جميع اللبنانيين.