إذا كانت أواخر سنة 2018 قد شكلت بعد تحرك “السترات الصفراء” منعطفا دقيقا في ولاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فإن العام 2019 ينذر بأن يكون عام العواصف والاستحقاقات أمام المؤسسات الفرنسية على أكثر من صعيد. يتضح مع الوقت أننا لسنا أمام حركة مطلبية اجتماعية أو سياسية روتينية، بل أمام شبح تمرّد احتجاجي يصعب توقّع سيناريوهات الخروج منه، لكن مما لا شك فيه أن فرنسا تعطي الإشارة لبدء تحوّل تاريخي داخلها وداخل أوروبا والديمقراطيات التقليدية في زمن تصدّع العولمة والقطيعة المرتسمة بين المؤسسات المفتقدة لفعاليتها والمجتمعات الجديدة.
لم تكن بداية السنة الجديدة مبشّرة لفرنسا مع استئناف حركة الاحتجاج الواسعة وتبيّن أن هدنة ما بين الأعياد ونهاية السنة لم تهدئ المشاعر ولم تقنع خليط المحتجين المتنوع بالرغم من حزمة الوعود الماكرونية التي تجاوزت عشرة مليارات يورو والإعلان عن تنظيم “حوار وطني”.
هكذا تتجاوز الأحداث التجربة التي بدأها الرئيس ماكرون نفسه وأولئك الذين أطلقوها معه، لأن أجوبتها السياسية تبدو قاصرة عن الإحاطة بتطور المشهد الفرنسي بعمق في العقود الثلاثة الماضية، وعدم التنبه لضرورة ابتكار تحديث في النموذج الفرنسي راهن عليه من انتخب ماكرون في ربيع 2017. وكذلك تتخطى الأزمة المرشحة للتفاقم مغامرة “السترات الصفراء” من خلال أولئك الذين أطلقوها وأولئك الذين ساروا في ركبها أو حاولوا تدويرها لصالحهم.
وفي كلتا الحالتين تطغى التعقيدات وعدم اليقين مما يزيد منسوب التحدي أمام صاحب القرار أو مما يطلق العنان من دون قيود لردود فعل الغاضبين أو المحتجين أو الداخلين على خط الفوضى والشغب. وهذا ما لاحظناه في آخر حلقات الاحتجاج، يوم السبت 5 يناير، مع بروز انقسامات ضمن نواة راديكالية بعضها أقرب لأطروحات أقصى اليمين والفوضويين والمشاغبين، ووصول الأمر إلى حد اقتحام إحدى الوزارات في باريس ليس بعيدا عن مقر رئاسة الحكومة، وحصول أعمال عنف في العاصمة وعدة مناطق ما زاد العبء على قوى الأمن بعد ثمانية أسابيع من الاستنفار وبعد خسائر طالت الاقتصاد وجاورت 4 مليارات يورو.
إنه المأزق من جديد من جانبي السلطة التنفيذية وجماعات الاحتجاج، وكأن مؤسسات الجهورية الخامسة لم تعد تتكيف مع هده الحقبة التاريخية، ويدلل على ذلك الفيلسوف ميشال سير بقوله “هذا فظيع لأنه يثبت أن نظامنا السياسي لا يملك إلا القليل ليقدمه وأنه مفصول كلياً عن المجتمع”.
يمكن تفهم تشديد ماكرون على إدانة “العنف ضد الجمهورية ورموزها” ومع استمرار الدائرة المغلقة في ما يشبه “حوار الطرشان”، لا يقتنع المحتجون بما حصلوا عليه من تنازلات ويصرّون على إحراز ثمن سياسي مثل استقالة الحكومة أو الرئيس نفسه، وفي حد أدنى انتزاع حق تنظيم ما يسمى “استفاء المبادرة الشعبية” في تقليد للديمقراطية السويسرية وما يعنيه من تغيير لطبيعة المؤسسات الموروثة، وهنا نتذكر قول المفكر الفرنسي الراحل إدغار كينيه أن “الديمقراطية الفرنسية فقدت عدتها وخواصها ويتوجب عليها تجديد أفكارها وأساليبها”.
إزاء هذا الوضع المتأزم يسود الالتباس في مشهدين سياسي ونقابي يعانيان من فراغ تستفيد منه أطراف أقصى اليمين وأقصى اليسار، ويمكن أن يترجم في نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية في مايو القادم. بانتظار تطورات بدأت تخرج عن السيطرة أخذت الدوائر المقربة من الرئاسة تحرك أوراقها ضد العنف والراديكالية من خلال إطلاق حركة “الأوشحة الحمراء” التي ستنظم يوم 27 من هذا الشهر مظاهرة دعم لماكرون تحت عنوان “التظاهرة الجمهورية للحريات” ستنطلق من ساحة الجمهورية نحو ساحة الباستيل في سعي للربط مع أماكن لها رمزيتها التاريخية، ويحاول مطلقوها تشبيهها بالمظاهرة التي دعمت الجنرال ديغول بعد ثورة مايو 1968.
بيد أن التاريخ لا يتكرر على نفس المنوال. يفصلنا نصف قرن عن تلك الحقبة وبالطبع لا أحد يتصوّر أن أريك دروييه أحد مطلقي حركة السترات الصفراء الذي أراد الوصول إلى قصر الإليزيه في محاكاة للوصول إلى الباستيل عام 1789، عاد على ما يبدو مع زميله ماكسيم نيكول ليتصوّرا سيناريو “الميدان” في أوكرانيا (2013 – 2014) وكيف تحوّل من احتجاج ديمقراطي إلى ثورة.
إنه التخبط لكنه التقليد لظواهر الثورات الملونة والرقمية وبدل ساحات التحرير والميدان و”احتلال وول ستريت” برزت ظواهر “المستجيرات” و”مفارق الطرق” في حراك السترات الصفراء في كل فرنسا الذي لا يمكن اختصاره بما يجري في باريس، بل يعبّر عن أولئك الذين يريدون العيش وليس فقط البقاء على قيد الحياة في مجتمع جديد زادت فيه ثروة الأغنياء، وبرز الشرخ الاجتماعي وتهميش الطبقة الوسطى وبؤس عند الفقراء واندثار لفئة الفلاحين مع التحوّلات الزراعية والصناعية.
هكذا يمكن القول إن حراك السترات الصفراء ما هو إلا نتاج عدم المساواة الاجتماعية والضائقة الفلاحية في فرنسا العميقة. مع الزيادة المتوقعة في متوسط العمر والاختفاء التدريجي للثقافة الريفية، وآثار التكنولوجيات الجديدة وعولمة الاقتصاد والمشاكل البيئية، وبعد حقبة سلام منذ 1945 لم تحدث في تاريخ فرنسا من قبل، بدأت مرحلة جديدة لم يتنبه لها الفكر السياسي أو الفلسفة وبدت الأحزاب التقليدية والنقابات مجرّدة من أدوات المواجهة.
هذا الخلل ليس فرنسيا فحسب بل هو عالمي. إنه اختلال هائل بين ما نسميه اليوم بالسياسة والواقع الاجتماعي. إنها الظواهر المتصاعدة منذ 2016: الترامبية في الولايات المتحدة، البريكست في بريطانيا، نوع من الفوضى في إيطاليا، ثم الأنظمة الاستبدادية أو الأوتوقراطية من روسيا إلى تركيا وكذلك صعود الشعبوية من البرازيل إلى شرق أوروبا. وفي فرنسا تجلّى ذلك ببساطة في الانتخابات الأخيرة في 2017 عن طريق انفجار الأحزاب التقليدية من اليسار واليمين. اليوم لم تعد هناك شبكة أمان بين الانهيار السياسي والواقع الاجتماعي الجديد.
تبدو الاستحقاقات متعددة على الصعيد الداخلي لمجابهة تحدي السترات الصفراء والاحتجاجات الأخرى، وكذلك على الصعيد الأوروبي بعد الخروج البريطاني وانتخابات مايو. ومن دون شك سيكون موقع سيد الإليزيه على المحك في مواجهة العواصف في حال لم يعط أجوبة سياسية جريئة، وحينها يمكن أن تكون فرنسا مختبر تحوّلات جذرية في الأفكار والأنظمة السياسية.