يوم السبت المقبل يفترض أن تعقد القمة الاقتصادية العربية التي تستضيفها بيروت، لكن الجدال لا يزال يدور حولها وما إذا كانت ستؤجل لأسباب تتعلق طبعاً بالوضع السياسي اللبناني المعقد، مع استمرار العجز الفاضح عن تشكيل حكومة جديدة بعد مضي ثمانية أشهر، كما تتعلق أيضاً بالوضع السائد في العالم العربي والأزمات المعقدة جداً التي تسيطر على أكثر من عاصمة عربية!
كان من المثير أن يبدأ الأسبوع بنوع من تناقض النظرة بين المسؤولين اللبنانيين، فالرئيس ميشال عون يقول إن القمة الاقتصادية ستعقد في موعدها يومي 19 و20 من الشهر الحالي، وإنه رغم أن الحكومة اللبنانية هي حكومة تصريف أعمال، فإن ذلك ليس سبباً لتأجيلها، وإن كل الترتيبات المتعلقة بتنظيمها قد أنجزت، وإنه بدأ تسجيل أسماء الإعلاميين الراغبين في تغطية وقائعها، وإن لبنان جاهز لاستقبال القادة العرب لمناقشة المواضيع الواعدة على جدول أعمال القمة.
أما الرئيس نبيه بري فقد رأى أنه نتيجة عدم وجود حكومة، وكي لا تكون القمة هزيلة، فمن المفضّل تأجيلها إلى حين تشكيل الحكومة، وهذا ما جعل البعض يتساءل مستغرباً، كيف يمكن أن توضع القمة على التوقيت المؤسف لتشكيل الحكومات في لبنان، لكن هناك من ربط موقف بري بأمرين؛ أولاً مسألة دعوة سوريا من عدم دعوتها إلى حضور القمة، مع أن هذا القرار مرهون أصلاً بالجامعة العربية، وكذلك دعوة ليبيا إلى القمة مع استمرار عقد اختفاء موسى الصدر ورفيقيه، وثانياً بوجود مؤشرات على أن بعض الدول ليست متحمسة لحضور القمة ولم يحدد بعد مستوى تمثيلها.
والمثير أن العنوان الذي اختير لهذه القمة، وهو «الازدهار من أجل السلام»، قد أثار نقاشاً مفتعلاً، على خلفية القول إن هذه القمة قد تعيد طرح «المبادرة العربية للسلام» التي أقرتها قمة بيروت عام 2002، في وقت يرتفع الحديث عن تطبيع عربي مع إسرائيل، لكن أوساط رئاسة الجمهورية ردت بأن ما سيطرحه لبنان سيكون مبادرة لها علاقة بقضايا التنمية الضرورية والملحة وسط الظروف العربية الراهنة!
ورغم هذا لم يتوقف البعض عن الترويج أنه من الممكن تغيير اسم القمة من منطلق أن الربط بين الازدهار والسلام، يمكن أن تكون له دلالات سياسية تحاول الربط بين هذه التسمية والطروحات الأميركية التي تركز على أن الازدهار يمكن أن يشكل طريقاً للسلام، وأن «صفقة العصر» التي تحدث عنها الرئيس دونالد ترمب ترتكز على هذه المعادلة، ولكن التسمية لم تصدر أصلاً عن لبنان البلد المضيف طبعاً، بل عن اللجنة المنظمة التي كان يفترض أن تنظر فيها الأمانة العامة للجامعة العربية!
ورغم جدال البعض في بيروت حول دعوة سوريا إلى القمة فقد وضع وزير الخارجية المصري النقاط على الحروف يوم الأربعاء الماضي عندما قال إن عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وحضورها القمة الاقتصادية في بيروت مرهونة بقرار من مجلس الجامعة، وتتطلب من دمشق اتخاذ بعض الإجراءات، وهناك حاجة لاتخاذ دمشق إجراءات وفق قرار مجلس الأمن رقم 2254 لتأهيل عودتها إلى صفوف الجامعة، ثم إن هذه العودة مرتبطة بتطور المسار السياسي لإنهاء أزمتها!
بعيداً عن كل هذه التفاصيل فإن السؤال الأهم يبقى:
هل يمكن أن ينجح لبنان وهو البلد المضيف والممزق الذي تعلكه خلافات وصراعات داخلية، تغذيها تقاطعات إقليمية ساخنة ومؤذية طبعاً، في أن يستضيف عالماً عربياً لا يقل عنه تمزقاً وانخراطاً في الخلافات، التي تتقاطع فوقها تدخلات إقليمية ودولية، وخصوصاً أننا في زمن عاصف جداً لجهة إعادة ترتيب التوازنات الدولية والإقليمية التي تعصف بالعالم العربي من موريتانيا إلى اليمن؟
إنه السؤال الأكثر أهمية رغم أن هناك حاجة لبنانية طاغية وملحة، إلى أن تفتح هذه القمة أبواباً ضرورية وحيوية، تعيد انفتاح الدول العربية، وخصوصاً الخليجية منها، عليه، بعد تمادي التدخلات الإيرانية السافرة في شؤونه الداخلية وفي تعطيل دورته الدستورية كما هو معروف، وآخرها عقدة تشكيل الحكومة بعد افتعال الفراغ الرئاسي لمد عامين ونصف العالم، والتي وصلت في وقت سابق إلى درجة الزعم أن طهران باتت تحكم بيروت.
والسؤال الثاني الموازي في الأهمية:
هل تستطيع الدول العربية أن تجعل من قمة بيروت الاقتصادية، بوابة للخروج من أزمات وجروح السنوات العجاف، التي ضربت كل دول المنطقة تقريباً، وخصوصاً من منطلق المشكلات الهائلة التي خلفها «الربيع العربي»، وما حمله من المآسي التي أدت إلى انهيار دول ومجتمعات، ثم المآسي المرعبة التي نتجت عن سيطرة «داعش» في سوريا والعراق وظهور التنظيمات الإرهابية، التي طالما تمّ استخدامها كأذرع تخريب من الدول الخارجية والإقليمية للتدخل في الشأن العربي؟
إن صورة لبنان كبلد ممزق تنخره الخلافات العميقة بين القوى السياسية فيه، التي جعلته طعماً لسلسلة من الفراغات المتلاحقة في السلطة وكمستنقع للفساد والفوضى، ليست أفضل بكثير من صورة بعض الدول في العالم العربي، وهي الدول التي يفترض أن تشارك في هذه القمة. وفي هذا السياق لا بد من طرح السؤال:
ماذا عن سوريا ومشكلاتها الداخلية والمطامع الروسية والأميركية والتركية والإيرانية فيها، هذا بغضّ النظر عن مشكلاتها العويصة مع لبنان رغم انقسام اللبنانيين بهذا الشأن، وماذا عن ليبيا والفوضى المسلحة التي تدمر ما بقي منها، وماذا عن شرذمة الفلسطينيين والتدخلات الإيرانية التي تمزقهم، وماذا عن اليمن الذي دمره الانقلاب على الشرعية الذي تدعمه إيران، وماذا عن العراق العاجز عن استكمال أعضاء حكومته الجديدة، وماذا عن تدخل كل من تركيا وإيران في شؤون الدول الخليجية، وماذا عن خلافات المغرب والجزائر في الصحراء الغربية، وماذا عن السودان، وماذا... وماذا…؟
ولن أواصل طرح هذه التساؤلات التي تشبه برم السكاكين في الجروح العربية الكثيرة، لكنني لن أتوانى عن القول: هل يمكن للقمة الاقتصادية إذا عقدت أن تنتزع لبنان من المخالب التي تمزقه، وتدفعنا أصلاً إلى طرح السؤال: كيف لبلد ممزق أن يستضيف عالماً ممزقاً؟
في عام 2009 حضرتُ القمة الاقتصادية في الكويت، التي كانت في الواقع من أنجح القمم ليس لأسباب تتعلق بالقضايا الاقتصادية، بل لأن حنكة الشيخ الأحمد الصباح ورؤيته ودبلوماسيته البارعة، تمكنت من أن تحوّل تلك القمة الاقتصادية إلى إحدى أهم القمم العربية سياسياً منذ قمة أنشاص، لأنها كانت قمة المصالحات العربية.
في قمة عمان عام 2001 تم اقتراح عقد القمة الاقتصادية العربية، وفي قمة الرياض عام 2007 قدمت الكويت اقتراحاً لاستضافة أول قمة، القمة الثانية عقدت في القاهرة، وإذا عقدت الآن في بيروت في 19 و20 من هذا الشهر فستنصب الجهود على الخلافات العربية السياسية، أما الاقتصاد فمسألة أخرى للأسف!