إستبق رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الجميع بالدعوة الى «تفعيل» حكومة تصريف الأعمال على قاعدة إجتماعات الضرورة ووفق جدول أعمال محدَّد بهدفِ انتشال البلاد من التردّي الإقتصادي، «في حال لم يُصَر الى تأليف الحكومة فوراً»، متّكئاً على الاجتهاد نفسه الذي تحدّث عنه بري حول حكومة رشيد كرامي المستقيلة عام 1969. لكن أن تصدرَ الدعوةُ الى «التفعيل» من معراب شيء، وأن تتحوّلَ لاحقاً عين التينة منبراً للدعوة الى إعادة إلتئام شمل الحكومة المستقيلة تحت عنوان إقرار الموازنة وإحالتها الى مجلس النواب شيء آخر، خصوصاً في ظلّ «المواجهة» المباشرة بين بعبدا وعين التينة في شأن القمة الاقتصادية العربية في بيروت.
سبق لرئيس مجلس النواب أن خاض معركة «تشريع الضرورة» في محطات عدة، وتحديداً بعد استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2013 وصولاً الى مرحلة الفراغ الرئاسي الذي استمرّ نحو عامين ونصفَ عام، ووصل الى حدِّ فرض «عُرف» الالتئام «الطبيعي» لمجلس النواب في ظلّ حكومة مستقيلة كما برز من خلال جلستي التشريع الأخيرتين في 24 و25 أيلول و12 تشرين الثاني الماضي، وذلك تحت غطاءٍ سياسيّ من المكوّنات الأساسية وخصوصاً تيار «المستقبل» الذي لم يقاطع الجلسات، بل فضّل رئيسُه التوافق المسبَق مع بري على ما يمكن إقرارُه، خصوصاً القوانين المتعلقة بقروض خارجية مطلوبة بموجب مؤتمر «سيدر»، وما لا يمكن إمرارُه مع حكومة تصريف أعمال، وتحديداً كل ما كان يتطلّب تمويلاً مباشراً من الخزينة العامة.
لكنّ «جلسات الضرورة» لحكومة مستقيلة لا يبدو أنها تحظى بـ «حصانة» الانعقاد. فمقابل «حماسة» بري المعلّلة تحت عنوان ضرورة انتظام المالية العامة لا يزال يُواجَه حتى الآن بـ»فيتو» تحت عنوان «دستوري» سياسي من جانب عون وآخر «شكلي» تحت عنوان «إقتراح قيد التشاور» من جانب الحريري، الذي تؤكد مصادره أنه «يدرس الاقتراح من جوانبه الدستورية والقانونية والسياسية ليقرّرَه بعدها». غير أنّ الاتجاه العام هو إعطاء الحريري موافقته على انعقاد جلسات لإقرار مشروع الموازنة حصراً، وسط رأيٍ قانونيّ يروّج له في محيطه بأنّ إستقالة الحكومة لا تقع في خانة الظروف الاستثنائية، وبالتالي هي ليست مُعفاة من موجب إعداد الموازنة، الذي يشكّل واجباً دستورياً.
أما في السياسة، فإنّ تعويم حكومة الحريري حالياً قد يشكّل أفضلَ «دفاع» عن الصلاحيات في خضم «الكربجة» المتعمّدة، في رأي قريبين منه، لعرقلة ولادة حكومته الثالثة، مع إشارة مطلعين الى تخوّفٍ رئاسيٍّ فعلي من أن ينقضيَ عام كامل من عمر العهد في ظلّ حكومةٍ تصرّف الأعمال في موازاة ضمانات يعلنها تكراراً حاكمُ مصرف لبنان من «أنّ طوال السنة الحالية مهما إشتدت الأزمة فإنّ الليرة لن تُمَسّ».
يذكر أنّ التمادي في عدم تأليف الحكومة أدّى إلى تخطي كل المواعيد الدستورية لإعداد موازنة 2019 وإقرارها في مجلس النواب، حيث كان يُفترض بالحكومة الجديدة أن تُحيل مشروع الموازنة إلى المجلس النيابي قبل 15 تشرين الأول، على أن يُقرَّها خلال العقد العادي الذي إنتهى نهاية 2018. وعجز الحكومة عن إقرار المشروع أحالها الى المادة 86 من الدستور، ومفادها «إذا لم يبتّ مجلس النواب نهائياً مشروع الموازنة (إفترض المشرّع هنا أنّ مناقشة المشروع بدأت لكن لم تنتهِ) قبل الانتهاء من العقد العادي، يدعو رئيس الجمهورية المجلس فوراً الى دورة استثنائية تستمرّ لغاية كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة، على أن تأخذ الحكومة نفقاتِ شهر كانون الثاني من السنة الجديدة على القاعدة الإثني عشرية».
في «بيت الوسط» لا قرارَ حتى الآن، والأمرُ كافٍ لـ»التيار الوطني الحر»، ليتّكئ على هذا التريّث متجنّباً إعلان موقف صريح من إلتئام مجلس الوزراء مجدداً، بغية عدم الدخول في سجال مباشر إضافي مع بري. فأوساط «التيار» تؤكد أنّ «رئيس الجمهورية يفعل المستحيل لتأمين ولادة سريعة للحكومة، و»تفعيل» الحكومة في هذا التوقيت القاتل لا يعني سوى تكريس واقع أنها دخلت المجهول».
وفيما يرى عون أنّ تفعيل الحكومة هو بمثابة تكريس واقع الإستنزاف الحكومي عبر العجز المتمادي عن تأمين ولادة طبيعية لـ»حكومة العهد الأولى»، يربط بري إلتئامَ مجلس الوزراء وإقرارَ مشروع الموازنة تمهيداً لإحالته الى مجلس النواب بتوجّسه من بقاء الحكومة في غرفة العناية الفائقة الى وقت طويل قد يصعب تقديرُه أو وضعُ مهلة زمنية له، كما أنه من أصحاب الرأي القائل بضرورة إلحاق إصلاحات «سيدر» بالموازنة، ما يُساهِم في إختصار الوقت خصوصاً أنّ ولادة الحكومة تُستَتبع بجلسات إعداد البيان الوزاري ومناقشته، وهذا يعني مزيداً من التأخير.
وفيما يصرّ بري على رفض إعتبار «التفعيل» بمثابة «تعويم» لحكومة تصريف الأعمال، بل مجرد إجراء أكثر من ضروري حمايةً للمالية العامة والمؤسسات، فإنّ «التيار» الرافض أصلاً هذه الخطوة يحاذر الإدلاءَ بدلوه في هذا التوقيت، حيث تؤكد مصادرُه في هذا السياق «أن لنا موقفنا الصريح من مسألة تفعيل حكومة تصريف الأعمال، لكن لسنا مضطرّين في توقيت غير مناسب لأن نطرحه في سوق التداول، وسنقول موقفنا في الوقت الملائم ولمَن يجب أن يسمعه»، مؤكدة أنّ هذا الأمر «لم يُطرح على فريقنا السياسي رسمياً حتى الآن، وبالتأكيد لسنا معنيين بالكشف عن أوراقنا قبل أن يُعلن الطرفُ الأساسي المعني بالتفعيل، أي الرئيس المكلف، موقفَه».