لا يبدو انّ إمكانية الخروج من النفق الحكومي ممكنة حتى الساعة في ظل تموضع ثلاثي يحول دون ذلك: إصرار الوزير جبران باسيل على الثلث المعطل، إصرار «حزب الله» على تمثيل «اللقاء التشاوري»، وإصرار الرئيس المكلف سعد الحريري على الصيغة الثلاثينية أو ما دون وليس ما فوق، ولا حكومة إذا لم يتراجع أيٌّ من القوى الثلاث عن موقفه.
الرئيس المكلف لا يستطيع تكريس صيَغ حكومية جديدة، وليس في وارد التنازل من حصته لـ»اللقاء التشاوري»، و»حزب الله» على موقفه، وبالتالي تبقى الكرة في ملعب «التيار الوطني الحر» الذي انتقل من اعتبار الثلث «حقاً تمثيلياً» له أفرزته الانتخابات، إلى اعتبار هذا الثلث «حقاً ميثاقياً» لرئيس الجمهورية يستعيد من خلاله التوازن داخل السلطة التنفيذية بين رئيس الحكومة والثنائية الشيعية.
وفي المقابل هناك مَن يسأل: مَن قال مثلاً إنّ موافقة الحريري على صيغة الـ32 وزيراً ستؤدي إلى ولادة الحكومة من دون بروزعقدة جديدة من نوع حقيبة ممثل «التشاوري» أو غيرها؟ وهل إذا تراجع باسيل عن الثلث تشكَّل الحكومة فوراً؟ وهل أولوية «حزب الله» تمثيل «التشاوري» أو منع باسيل من انتزاع «الثلث الضامن»؟ وممّا يخشى الحزب من حصول رئيس «التيار الوطني الحر» على هذا الثلث؟ وما صحة الكلام عن توجّس الحزب من العلاقة بين الحريري وباسيل؟ وما صحة الكلام أيضاً عن انّ باسيل لن يشكّل الحكومة قبل أن ينتزع تعهّداً بخلافته للرئيس ميشال عون؟ وهل كل ما تقدّم عُقد حقيقية، أم أنّ العُقدة الفعلية خارجية وعند حلّها تُشكَّل الحكومة؟
وفي موازاة ما تقدَّم يمكن التوقف أمام المؤشرات الآتية:
ـ المؤشر الأول يكمن في الخلاف بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» والذي تظهّر في مناسبات مختلفة بدءاً من اتّهام عون الحزب بأنه «يقدّم التكتيك على الاستراتيجيا»، مروراً بكلامه عن «محاولة البعض فرض أعراف جديدة» وحديثه عن «خلاف في الخيارات السياسية»، وصولاً إلى قول باسيل إنّ «تشكيل الحكومة لا يُفترض أن يكون مناسبة لتحقيق مكتسبات سياسية أو تغيير في النظام».
وإذا كان الخلاف بين الطرفين لا يحتاج إلى إثبات، إلّا انّ السؤال الذي لا إجابة عليه بعد هو: ما هي حقيقة هذا الخلاف وخلفياته وحجمه وحدوده وعمقه خارج التكهّنات والاحتمالات وهي كثيرة، خصوصاً أنّ نقمة الحزب على باسيل لا تحتاج بدورها إلى إثبات؟
ـ المؤشر الثاني يكمن في الموقف من الحريري الذي أطلقه معاون الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسين الخليل، خصوصاً بعد الهجوم المركّز الذي شنّه بعض المسؤولين في الحزب على الحريري وأوحى أنّ هناك كلمة سرّ بإعادة النظر في تكليفه وقلب الطاولة سياسياً على الوضع القائم، فأكد الخليل عدم وجود «قرار ولا نيّة عند قيادة الحزب بالهجوم على الرئيس المكلّف»، وأشار إلى أنّ «الحزب لا يزال مقتنعاً رغم كل شيء بأنّ الحريري هو رئيس حكومة المرحلة»، واعتبر أنّ «المواقف الأخيرة لبعض المسؤولين ليسَت مؤشراً الى وجود أمر عمليات بذلك».
وموقف الخليل كان كافياً لوقف الحملة على الحريري وتوجيه رسالة إلى الرئيس المكلف مفادها أنّ التباين لا يخرج عن سقف التسوية والالتزام بتكليفه ورئاسته للحكومة، وأنّ دعم «التشاوري» لا علاقة له بكونه «رئيس حكومة المرحلة».
ـ المؤشر الثالث يكمن في تجدّد الخلاف على خط بعبدا-عين التينة ومن باب القمة الاقتصادية العربية أولاً، وهنيبعل القذافي ثانياً، وهذا الاشتباك قد يكون محدوداً في السقف والزمان والمكان، ولكن لا يمكن عزل خلفياته ورسائله التي تبدأ من عين التينة مروراً بحارة حريك وصولاً إلى دمشق، خصوصاً أنّ «حزب الله» المتمسّك بالحريري لن يتخلّى عن عون، ولكنّ هذا التطور يعكس رؤية الثنائية الشيعية للواقع السياسي والإصرار على «هزهزته» بشتى الاشكال والعناوين.
ـ المؤشر الرابع، كلام المعاون الخليل أيضاً عن أنّ «الرئيس السوري بشار الأسد لا يتعاطى بالتفاصيل اللبنانية على الإطلاق، وهو ينصح زائريه من لبنان ممَن يتناقشون معه في الملف اللبناني بمشاورة الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله»، وهذا الكلام ليس عابراً لا في توقيته ولا من قائله تحديداً والذي وجّه رسالة ناعمة مفادها انّ الحزب قدّم الشهداء من أجل بقاء النظام السوري، ولكنّ «الكلمة الفصل» في لبنان له وليس للنظام، ومن له أذنان فليسمع بدءاً من النظام وصولاً إلى حلفائه في لبنان.
ـ المؤشر الخامس، دعوة البطريرك بشارة الراعي إلى قمة تجمع رؤساء الأحزاب الموارنة للبحث في الفراغ الحكومي، وتزامنت هذه الدعوة مع بيان لمجلس المطارنة انتقد فيه دعوة الرئيس نبيه بري، من دون أن يسمّيه، إلى تفعيل حكومة تصريف الأعمال لإقرار الموازنة، داعياً إلى «استبدال العلاجات الموضعية بالعلاج الأساسي». وفي الوقت الذي كانت أشارت كتلة «المستقبل» إلى أنّ الدعوة لتفعيل حكومة تصريف الأعمال محطُّ درس ومتابعة، لم يصدر أيُّ شيء عن رئيس الجمهورية، فيما أبدت مصادر قريبة من القصر الجمهوري عدم حماستها للتفعيل.
وعلى رغم انّ موضوع تأليف الحكومة يبقى الأبرز على الساحة اللبنانية، إلاّ انّ هناك حراكاً سياسياً لا يمكن الاستهانة به، وإذا كانت مؤشراته ما زالت في بداياتها، فهذا لا يعني انّ الساحة اللبنانية لا تشهد خلطاً للأوراق ولو على الناعم.
وفي العودة إلى المخاوف من تغيير النظام، فهي هواجس موجودة في استمرار، وهذا أمر جيد من أجل التمسك بالدستور ورفض تعديله، وفي هذا السياق يمكن التوقف أمام المعطيات الآتية:
ـ أولاً، الكلام عن تغيير النظام لم يتوقف يوماً، وما يقال اليوم قيل نفسه في زمن الفراغ الرئاسي من أنّ الهدف منه هو الإطاحة بـ»اتفاق الطائف»، ولكن في نهاية المطاف حصلت الانتخابات الرئاسية وتأليف الحكومة سيحصل عاجلاً أم آجلاً.
ـ ثانياً، جميع القوى المعنية تدرك جيداً انّ تغيير النظام ليس بهذه البساطة، فالوصول إلى «إتفاق الطائف» كلّف لبنان الكثير الكثير، وايّ تغيير يصعب حصوله على البارد، فيما لا مؤشرات داخلية ولا خارجية إلى إعادة تحويل لبنان ساحة قتال ومتاريس.
ـ ثالثاً، لم يصدر عن «حزب الله» أيُّ كلام علني ورسمي عن نيته او توجّهه الى تغيير النظام، خلافاً لما كان عليه الوضع قبل الحرب اللبنانية وإبّانها من دعوات الى تعديل النظام، وما يقال عن الحزب يدخل في باب التكهّنات السياسية. ولكن ماذا عن تكريس أعراف جديدة تشكل تعويضاً مقبولاً بدلاً من تغيير النظام؟ للبحث صلة.