يتفنن سياسيو لبنان في إختلاق الأزمات والغوص فيها، وتعطيل البلد من خلالها، فلا يكاد الوطن يخرج من أزمة أو ينجح في تجاوز عقدة سياسية إلا ويدخل في غيرها وهكذا دواليك، ما يجعل المواطنين أسرى توترات وصراعات وتجاذبات تنعكس مخاوف على يومياتهم ومستقبلهم، في حين تبقى همومهم وما أكثرها خارج أي إهتمام رسمي.
فقد اللبنانيون ثقتهم بدولتهم، فلا حكومة ترعى شؤونهم، ولا مؤسسات تحمي مصالحهم، ولا مسؤولون يعملون على حل مشاكلهم، ولا سلطة تتحمل مسؤولياتها في ظل إنشغال رجالها بتحصيل حصص ومكاسب سياسية من هنا وهناك.
يترجم هذا الأمر بوضوح في تشكيل الحكومة التي ينتظر اللبنانيون ولادتها منذ 24 أيار الماضي تاريخ تكليف الرئيس سعد الحريري بتأليفها، حيث يبدو لبنان كمجموعة جزر سياسية كل منها تسعى الى فرض ممثليها في السلطة التنفيذية، بعيدا عن بذل أي جهد لتحقيق المصلحة الوطنية العليا التي تبقى شعارا بعيدا عن الواقع وعن التطبيق.
الرئيس سعد الحريري يعتمد سياسة ″التطنيش″، بعدما وجد أنه قدم كل ما يستطيع من تنازلات ولم يعد يستطيع أن يغامر برصيده السياسي أكثر من ذلك، لكنه في الوقت نفسه ما يزال يتعامل مع الواقع الحكومي كرئيس لتيار المستقبل وليس كرئيس حكومة مكلف، الأمر الذي يجعله في مواجهة عنيفة مع اللقاء التشاوري ومن ورائه حزب الله الداعم لتمثيله، ومع التيار الوطني الحر وغيرهم.
رئيس تكتل ″لبنان القوي″ جبران باسيل مدعوما من الرئيس ميشال عون، يصر على الثلث المعطل (11 وزيرا) مع حصة رئيس الجمهورية، ويقدم الحلول والأفكار التي تصب فقط في هذا الاتجاه، بدءا من الاستحواذ على ممثل اللقاء التشاوري في الحكومة، مرورا بحكومة الـ 32 والـ 36 وزيرا، المهم لديه أن يحصل على مبتغاه الذي لم تنفع كل الجهود حتى الآن في إقناعه بالعدول عنه تسهيلا لعملية التأليف، في وقت ينتظر فيه عهد الرئيس عون أن ينطلق بحكومته الأولى بعد الانتخابات النيابية.
حزب الله يمتنع عن تسليم أسماء وزرائه الى الرئيس المكلف، لكنه يحتضنه ويتمسك به كرجل للمرحلة، ويدعم تمثيل اللقاء التشاوري الذي دخل في جدل بيزنطي حول إنتماء وزيره، وهل سيكون ممثلا له من حصة رئيس الجمهورية، أو يكون من حصته وممثلا لرئيس الجمهورية، وهل سيكون أحد أعضائه أو مندوبا عنهم، في وقت تنقطع فيه خطوط التواصل بينه وبين عرابي التأليف، ما يدفعه الى التهديد بالعودة الى المربع الأول والمطالبة بتوزير أحد أعضائه مع حقيبة.
وقبل ذلك، كانت العقدة المسيحية التي سعى من خلالها جبران باسيل الى تحجيم القوات اللبنانية التي عملت بدورها الى الاستفادة من تفاهم معراب للحصول على المناصفة في المقاعد الوزارية مع التيار الوطني الحر قبل أن تفشل في ذلك، وأيضا العقدة الدرزية، وكذلك العقدة الأرمنية، والتوزيع الطائفي للوزراء والحقائب.
وفي حمأة الصراعات على المقاعد الحكومية، تتفتق عبقرية المسؤولين في إستيلاد أزمة جديدة عوانها ″القمة الاقتصادية العربية″، حيث يرفض فريق سياسي دعوة سوريا الى القمة، في المقابل يعلن فريق ثان أن لا قمة عربية في لبنان من دون دعوة سوريا، ويرفض في الوقت نفسه دعوة ليبيا الى القمة على خلفيه قضية تغييب إمام الوطن موسى الصدر، ثم يدعو الى تأجيلها خوفا من ضعف التمثيل العربي، في حين يصر فريق آخر على إنعقاد القمة في موعدها ويؤكد أن مستوى التمثيل سيكون جيدا، ليدخل البلد في دوامة جديدة قد يكون من الصعب الخروج منها، وربما تنعكس مزيدا من السلبية على تشكيل الحكومة التي بدأ بعض الأطراف يهدد بإعادتها الى نقطة الصفر والبحث مجددا في الحصص الوزارية للتيارات السياسية وفقا لنتائج الانتخابات النيابية الأمر الذي قد يتطلب ثمانية أشهر إضافية، في وقت يترنح فيه لبنان على حافة الهاوية.
كل ذلك يؤكد بما لا يقبل الشك، أن الحس الوطني بات مفقودا لدى أكثرية الأطراف السياسية التي لم يعد يعنيها سوى الحصة التي ستنالها في الحكومة والخدمات التي يمكن أن يقدمها وزراؤها الى قواعدها الشعبية والمكاسب التي قد تجنيها من جنة الحكم، وكأن كل طرف سياسي يعيش في جزيرة معزولة، وغير معني بالسفينة التي باتت على وشك الغرق، أو أننا جميعا نعيش في “بلد كل مين إيدو إلو”، في وقت بات فيه الرؤساء والمسؤولون يسبقون الشعب في النقّ والشكوى والنعي..