رلى الطبش محامية معروفة في بيروت، ومن عائلةٍ محترمة ومحافظة في المدينة. وقد اختارها الحريري على قائمته الانتخابية في الانتخابات الأخيرة، وفازت بعضوية مجلس النواب. وهي خالية الذهن من الناحية الدينية، ما عرف الجمهور عنها غير بعض التذمرات لصالح النساء وتحسين التعامل معهنّ أمام المحاكم الشرعية. إضافة إلى دعوتها مع ديما الجمالي، زميلتها على لائحة الحريري، للدولة المدنية والزواج المدني؛ وهما أمران مختلفان بالطبع، لكنْ هكذا صرَّحتا. المهم بعد هذا الاستطراد، أنّ النائبة الطبش خطر لها بمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة، أن تحتفل مع ناخبيها المسيحيين عن طريق الدخول إلى إحدى الكنائس وحضور القُدّاس، حيث يخيل للمشاهد أنها مارست بعض الطقوس. وما إن انتشرت صورتها في الكنيسة (التي ربما نشرتها هي لأنها خالية الذهن بالفعل!) على وسائل التواصل حتى ثارت العامة عليها ثورةً عنيفةً استغربتها هي أولاً، لكنها ما لبثت أن خضعت لذاك الهول الهائل، فمضت إلى المفتي الذي استتابها وأنطقها بالشهادتين، وأرسلها إلى أمين الفتوى ليعلّمها أمور دينها، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر.
كل السياسيين في لبنان والجيران والرفاق الذين تربوا مع بعضهم في المدرسة أو الجامعة من المسيحيين والمسلمين، يحضرون احتفالات وتعازي وجنازات الطرف الآخر، جزءاً من الودّ ومن المواضعات الاجتماعية. وهذا الأمر ليس خاصاً بالعائلات العريقة أو الفئات المتعلمة؛ بل هناك حيوات مشتركة بين المسيحيين والمسلمين في بلاد الشام ومصر منذ قرونٍ وقرون. وقد شاهدتُ في صِغَري جيراننا المسيحيين يقفون على باب المسجد مع بعض الطعام يقدمونه للمسلمين الخارجين من صلاة المغرب في رمضان، والذاهبين إلى بيوتهم للإفطار، للتودد والحصول على الأجر. وهذا إلى الملازمة لأيام في حالات الوفيات، أو مناسبات الزواج والأفراح. وهذا كله يعني أن رلى الطبش ما ارتكبت أمراً إدّاً، ولا كفرت أو ارتدّت، وما كانت تحتاج إلى توبةٍ أو استتابة، وإنما ما يمكن أن يقال لها إنه يكون عليها في المستقبل التنبُّه إلى حساسيات الجمهور والرأي العام. والطريف أنه عندما جاء في تصريحاتها بعد الواقعة أنها «اعتذرت من الله»، غضب المسيحيون وقالوا: نحن أيضاً نعبد الله!
هذا مظهر من مظاهر التصلب والانكفاء لدى المسلمين في السنوات الأخيرة. ونحن نشهد مظاهر مختلفةً لذلك في لبنان، لكنني شهدتُ مثله في الأردن ومصر والمغرب والسودان. وعندما تجد كهلاً متديناً لا يريد حضور ندوةٍ للحوار، لأنه يجد في ذلك غضاضةً في دينه؛ إذ إن «المرشدين» أو منسّقي الحوار هم أجانب، و«جاءوا ليعلِّموا المسلمين الاعتدال» (!) تُحسُّ أنّ في هذا الموقف جديداً. والجديد ليس لدى النُخَب بقدر ما هو لدى العامة. فهؤلاء شديدو الخوف على دينهم، ويعتبرون أنّ الأنظمة والهيئات الدينية، تقدم تنازُلاتٍ صارت مع الوقت مُخِلّةً بالأصول والقواعد، وما يجب أن يسود من احترامٍ وحفظ مسافةٍ مع الديانات الأخرى.
وقد ناقشت بالمغرب ومصر أُناساً بسطاء بعد صلاة الجمعة، كانوا يعرفونني لأنهم يشاهدونني في التلفزيون، وهم جميعاً يتذمرون من الإقبال الشديد لعلماء المؤسسات الدينية على زيارة واستقبال أهل الديانات الأخرى، وعلى تأكيد المودة والأخوة؛ في حين يبدو الآخرون أقل حماساً وإقبالاً، ويمضون إلى أميركا وأوروبا يريدون ضمانةً وأماناً منا. وقلت: وجهنا أسود من جرائم المتطرفين والإرهابيين الذين أوقعوا بنا أشدّ الأضرار ديناً وأوطاناً، كما نشروا الرعب والخوف في العالم، وإلى جانب مكافحة الإرهابيين والمتطرفين بالقوة والدعوة، يكون علينا التواصُل مع الخائفين ومع الذين يقبلون الحديث معنا على طريقة ومنهج: لا تؤاخذونا بما فعل السفهاء منا! لكنّ المغاربة على وجه الخصوص ما قبلوا، وقالوا إنّ أشدّ ما يزعجهم تلك اللهجة الاعتذارية، كأنما نحن نعتذر من أننا مسلمون، وقد جاء في القرآن: «ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم». فكل العنف مستنكَر، وينبغي أن يُقاتَلَ كما حصل حتى الآن، لكنّ هذا الإحساس بالذنب لا مبرر له. ثم إننا لم نعد آمنين في ديارنا التي يقال إننا كثرةٌ كاثرةٌ فيها، وعلةُ ذلك هذا البغي علينا من جانب القريب والبعيد.
ولكي نوضح تعقيدات هذه الحالة من التذمر وعدم الرضا والإحساس بتواطؤ القريب والبعيد أذكر بعض الحالات من سوريا، ومن نواحي حمص وحلب بالذات. فمجتمع المهاجرين السوري الآن يموج باضطرابٍ شديدٍ بشأن العودة من عدمها، حتى لدى أولئك الذين لم تتهدم منازلهم، وليست عندهم مشكلات قانونية مع النظام. هؤلاء ما كانوا مواطنين ذوي مرجعياتٍ وحقوق، وهم اليوم أضعف. يقول لي أَخوان؛ طبيبٌ ومهندس، إنّ الذي يعود يحتاج إلى «حماية» لأمنه الشخصي والديني. والأمن الشخصي يمكن إحقاقه عن طريق العسكريين العلويين أو الروس. أما الأمن الديني فشيء آخر، فالإيرانيون حاضرون في كل مكان، وهناك مساجد تشيّعت أو بُنيت حسينيات، واكتُشفت آلاف المزارات القديمة لآل البيت، التي يُزعَم أنّ السنة طمسوها، ولا أمن حقيقياً لك في حمص ونواحيها إذا كنتَ سنياً إلا بالتشيع. ثم كما تعرف، في السنوات الأخيرة، ظهرت فئات سنية معتبرة موالية للإيرانيين في سوريا والعراق، وهؤلاء يكون عليهم أن يثبتوا ولاءهم في كلّ آن، وأن يسكتوا عن أكل حقوقهم وأراضيهم ومنازلهم في مقابل حياتهم وعدم تهجيرهم؛ كما يحصل ويحصل في دمشق وضواحيها.
قال لي رجل دينٍ بارز: هناك إحساس لدى العامة والمتعلمين غير الحزبيين، في سائر دول الكثرة السنية بعدم الأمان الديني، أو الشعور بأن دينهم مستضعَف، وساعة من جانب المسيحيين واليهود، وساعة من جانب الشيعة. وأنت تقول إن المؤسسات الدينية مظلومة بما يُوجَّهُ إليها من اتهامات سواء من الناس أو الأنظمة باعتبار أنها لا تقوم بما فيه الكفاية في مجال الإصلاح، وفي كثرة مجاملتها للآخرين (!). وهذ صحيحٌ في جانبٍ منه، لكنّ هذه المؤسسات تحظى بتأييدٍ هائل عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على تقليدٍ أو حكم ديني، مثل بيانات الأزهر في استنكار تغيير أحكام المواريث بتونس. ومثل دفاع شيخ الأزهر عن السنة النبوية. ومثل قضايا الزواج العرفي. ويتصل مئات الناس بوسائل الإعلام لاستنكار حملة الدكتور جابر عصفور الحالية على البرامج التعليمية بالأزهر. ولا تزال الجمعيات النسوية وجمعيات المجتمع المدني تحمل على التدخل الديني في الشؤون العامة، لكنّ جمهرة كبيرة من الموطنين تريد من الزيتونة أن تتدخل حتى لو كانت صوتاً ضمن أصوات متعددة.
كل هذا الحديث عن التذمر والكآبة لا علاقة له بتيارات الإسلام السياسي. فهؤلاء يدعون - ظاهراً على الأقل - لدولةٍ دينيةٍ تطبق الشريعة، وإنْ بطُرُقٍ محدَّثة. والجمهور العامّ صار يرى أنّ تدخل الدين في إدارة الشأن العام، مضرٌّ بالدين قبل الدولة، كما ثبت في السنوات الخمس الأخيرة. بيد أن هذا الجمهور ذاته صار يشعر أن دينه من دون حماية، وتارةً تحت وطأة الإحساس بالذنب وضرورة الاعتذار من الأقليات، والوقوف عند خاطرها، وطوراً تحت وطأة هجمة التشيع الإيراني عليه. وهذان الأمران يستدعيان تفكيراً آخر وعملاً مختلفاً من جانب المؤسسات الدينية، وأهل إدارة الشأن العام الذين يفكرون بالمستقبل.