يحبّ بعض المسلمين تصوّر تاريخ الإسلام على أنه التزام دقيق بقواعد أرساها النبي قبل وفاته، ولم تتبدّل ولم يُضَف إليها أي شيء بعد ذلك. تُناقض هذه النظرة النوستالجية-السلفية جملة وقائع شهدتها مرحلة خلافة الخلفاء الراشدين، القادة الذين لا خلاف بين المسلمين على أنهم يمثلون "الإسلام الأوّل".
وقد يتساءل البعض: لماذا قبل المسلمون الأوائل بهذه "البدع" التي لم تكن موجودة في زمن النبي. وللإجابة على ذلك، يمكن الإحالة على ما قاله عثمان بن عفان الذي كانت قراراته كثيراً ما تلقى المعارضة: "والله عبتم علي بما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم"، حسبما جاء في تاريخ الطبري.
كاء أنس بن مالك
في حديثين أخرجهما البخاري في صحيحه، دخل الزهري على أنس بن مالك بفي دمشق وهو يبكي؛ فقال له: ما يبكيك؟ فقال أنس: "لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت"، وفي قول آخر: "ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي" فقيل له الصلاة، قال: "أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها؟".
وضوح المقصود من نصي هذين الحديثين لم يمنع علماء المسلمين من الالتفاف عليهما، فاعتبروا أن المقصود من جملة "تضييع الصلاة" هو إخراجها عن وقتها، دون الإقرار بأن ما كان على عهد الرسول تغيرّ إلى درجة أبكت خادم النبي أنس بن مالك.
ورُوي عن النبي نفسه قوله إن صحابته سيبدلون ما تركه، فقد جاء في صحيح البخاري أنه قال: "ليردن عليّ ناس من أصحابي الحوض حتى عرفتهم؛ اختلجوا دوني، فأقول: أصحابي. فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك".
هذا الحديث واضح، فمَن سيحدث بعد النبي كان يعرفهم النبي وناداهم بأصحابه. وفي الواقع، كان على رأس مَن أحدثوا الخلفاء الراشدون أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، رغم أن حديثاً منقولاً عن النبي فيه: "سحقاً سحقاً لمَن بدّل بعدي".
أبو بكر... الخليفة الأول يرسي قواعده
"لا إله إلا الله". كانت هذه الجملة تعصم قائلها من النبي، فيصير في مأمن، لكنّ أبا بكر خالف نهج النبي حين تولى الخلافة، ولم يمنعه نطق الشهادتين من إهدار الدماء بحجة جمع الزكاة، خلال الحقبة المعروفة بـ"حروب الردّة"، بل إن عمر بن الخطاب استنكر أفعال الخليفة وقال حسبما ورد في صحيح البخاري: "كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمَن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله". فرد أبو بكر: "والله لأقاتلن مَن فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها"، فاقتنع عمر.
طالب كثيرون من الصحابة من أبي بكر ترك قتال مَن امتنعوا عن الزكاة، لكنه رفض. يقول ابن كثير في "البداية والنهاية": "تكلم الصحابة مع الصديق في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكون، فامتنع الصديق من ذلك وأباه".
لكن علماء المسلمين رأوا أن أبا بكر اجتهد، يقول ابن عبد البر في "الاستذكار": "أبو بكر لما قاتلهم أجرى فيهم حكم مَن ارتد من العرب تأويلاً واجتهاداً".
في قضية أخرى، نزلت آية {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} لتنظيم أحكام الميراث فمَن يمت يرثه أولاده وأقاربه. وانطلاقاً منها، ذهبت فاطمة بنت النبي إلى أبي بكر تطلب منه أن يقسّم لها ميراثها مما تركه النبي. يقول البخاري في صحيحه: "فقال لها أبو بكر إن رسول الله قال لا نورث ما تركنا صدقة. فغضبت فاطمة بنت رسول الله فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت". كان هذا اجتهاداً من أبي بكر، وخالفه فيه عمر بن الخطاب عندما صار خليفة، إذ دفع صدقة النبي في المدينة إلى علي بن أبي طالب وعباس، وفقاً لرواية البخاري.
عمر بن الخطاب... يخالف النبي ويثني على "بدعته"
{فإذا أمنتم فمَن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهَدْيِ}، يقول القرآن محللاً التمتع بالحج، وفعلها النبي نفسه، لكن كان لعمر بن الخطاب رأي مناقض للقرآن والنبي فنهى عن التمتع بالحج.
جاء في الصحيحين عن عمران بن حصين أنه قال: "نزلت آية المتعة في كتاب الله، وفعلناها مع رسول الله. ثم لم ينزل قرآن يحرمه، ولم ينه عنها، حتى مات. قال رجل برأيه ما شاء".
وجاء في تفسير ابن كثير: "عمر كان ينهى الناس عن التمتع". ورغم أن نهي عمر جاء مخالفاً للكتاب والسنة إلا أن ابن كثير التمس له العذر وقال: "كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين".
في مسألة أخرى، أمر النبي أن يصلي الناس النافلة في بيوتهم، وبالأخص في صلاة القيام في رمضان؛ المعروفة بالتراويح، بل إن النبي صلى بالناس ثلاث ليالِ في رمضان ولم يخرج في اليوم الرابع خوفاً من أن يفرض قيام الليل. قال النبي كما جاء في البخاري: "فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة".
رفق النبي بالناس، ولكنّ عمر بدّل ما فعله النبي. جاء في تاريخ الطبري أن الخليفة الثاني أمر الناس بالقيام في المساجد في شهر رمضان بالمدينة، وكتب إلى الأمصار يأمر المسلمين بذلك. وجاء في السنن الكبرى للبيهقي أن عمر في قيام شهر رمضان قال: "نعمت البدعة هذه"، فعمر ابتدع وخالف النبي وأثنى على بدعته، لكن الإمام الشافعي رأى أنها بدعة موفقة وقال: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة.
وفي مسألة ثالثة، جاء في القرآن: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم}، وهكذا فعل النبي: منح الصدقات لكل هؤلاء، لكن عمر بن الخطاب اقتص "المؤلفة قلوبهم" من الآية ومنع عنهم الصدقة.
جاء في تفسير الطبري أن عمر بن الخطاب حين جاءه عيينة بن حصن، قال: ليس اليوم مؤلفة، فعمر قرر أن المؤلفة انتهوا بموت النبي، وقال بعض العلماء في الآية نسخ، ليبرئوا عمر، لكن الزهري قال: لا أعلم نسخاً في ذلك، وجاء في تفسير القرطبي ما يسدد خطى عمر، إذ قال: إنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين.
ورغم أن النبي كان واضحاً في الالتزام بحدود الله وقال كما جاء في المستدرك على الصحيحين: "إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها" إلا أن عمر بن الخطاب أحدث حين وقعت المجاعة في عهده أن أسقط حد السرقة، وهو حد من حدود الله. قال ابن القيم الجوزية: "إن عمر بن الخطاب أسقط القطع عن السارق في عام المجاعة. وعن عمر قال: لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة".
نهى النبي عن إحراق أي شخص بالنار، وقال: "لا تعذّبوا بعذاب الله". لكن هذا النهي خالفه أبو بكر الذي أحرق الفجاءة بن السلمي كما خالفه علي بن أبي طالب الذي حرّق جماعة اتهمهم بالزندقة
لماذا قبل المسلمون الأوائل بـ"بدع" لم تكن موجودة في زمن النبي. نجد الإجابة في قول لعثمان بن عفان يبدي فيه امتعاضه من معارضة قراراته: "والله عبتم علي بما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم"
وكما قطع عمر حداً؛ استحدث آخر، لكن هذه المرة في الخمر. فالقرآن لم يضع حداً للخمر، وتضاربت الأحاديث حول أن رسول الله حدّ في الخمر أو لم يفعل، والذين قالوا إن الرسول حدّ قالوا ضرب أربعين، أما عمر بن الخطاب فاختار ثمانين جلدة. يقول علي بن أبي طالب في صحيح مسلم: "ما كنت أقيم على أحد حداً فيموت فيه، فأجد منه في نفسي؛ إلا صاحب الخمر، لأنه إن مات وديته، لأن رسول الله لم يسنه". وعلي يعترف بذلك لأن المشهور أنه هو مَن أشار على عمر بالجلد ثمانين.
أبو بكر وعمر... انتهاك الأشهر الحرم
{يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل وكفر به}، يقول القرآن في سورة البقرة. وجاء في تفسير الطبري: "عظيمٌ عند الله استحلاله وسفك الدماء فيه".
والأشهر الحرم هم: ذي الحجة، وذي القعدة، ومحرم، ورجب، ونهى النبي عن القتال فيها، التزاماً بأمر الله، لكنّ أبا بكر وعمر لم يحذوا حذوه في خلافتيهما، فأبو بكر جهز جيش خالد بن الوليد وخرجوا بالسلاح في شهر محرم. يقول الطبري في تاريخه: "أبو بكر وجه خالد بن الوليد إلى أرض الكوفة، وفيها المثنى بن حارثة الشيباني، فسار في المحرم سنة اثنتي عشرة".
ووفقاً لكتب التاريخ، قاتل جيش عمر مرات ومرات في الأشهر الحرم. يقول ابن كثير في البداية والنهاية: "كانت وقعة أجنادين في جمادي الأولى، ووقعة فحل في ذي القعدة من سنة ثلاث عشرة"، ويضيف الطبري في تاريخه: "كان فتح دمشق في سنة أربع عشرة في رجب"، و"وقعة القادسية كانت في المحرم سنة أربع عشرة"، و"فتح جلولاء في ذي القعدة من سنة ست عشرة".
لم يراعِ عمر بن الخطاب حرمة الأشهر الحرام، أما عن علماء المسلمين فلم يضعوا تبريراً لتلك الحوادث؛ فالقرآن والسنة واضحان في هذا الشأن.
عثمان... استحدث أذاناً
عثمان أيضاً أحدث في الدين، فجعل خطبة العيد قبل الصلاة، ومن الثابت عن السنة والنبي، أن خطبة العيد تلي الصلاة، لكنه قدمها. جاء في الاستذكار لابن عبد البر: "كان رسول الله وأبو بكر وعمر يصلون يوم العيد ثم يخطبون، فلما كان عثمان ورأى الناس يجيئون بعد الصلاة، قال: لو حبسناهم بالخطبة فخطب ثم صلى". وأكد ذلك ابن مالك، والذي قال: أوّل مَن قدّم الخطبة في العيدين قبل الصلاة عثمان بن عفان.
وكان الأذان الثاني للجمعة بدعة وضعها عثمان، إذ كان على عهد النبي أذان واحد، أما عثمان فرأى غير ذلك. جاء في فتح الباري لشرح صحيح البخاري: "عن السائب بن يزيد قال كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء" ويقصد بالنداء الثالث الأذان الثاني إضافة إلي الإقامة. وبرر العسقلاني موقف عثمان بأن قال: عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة.
علي يقتدي بأبي بكر ويعذّب بالنار
نهى النبي عن إحراق أي شخص بالنار، لكن هذا النهي خالفه أبو بكر الذي أحرق الفجاءة بن السلمي. روى ابن كثير قصة الفجاءة في البداية والنهاية، فقال: "قدم عليه فزعم أنه مسلم، وسأل منه أن يجهز معه جيشاً يقاتل به أهل الردة، فجهز معه جيشاً، فلما سار جعل لا يمر بمسلم ولا مرتد إلا قتله وأخذ ماله، فلما سمع الصديق بعث وراءه جيشاً فرده، فلما أمكنه بعث به إلى البقيع، فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار، فحرقه وهو مقموط".
علي بن أبي طالب أيضاً حرّق جماعة بالنار، فإذا كان أبو بكر حرّق شخصاً، فعلي حرّق جماعة كاملة، اتهمهم بالزندقة، برغم أن نهي النبي كان واضحاً. فقد جاء في فتح الباري: "عن عكرمة أن علياً حرّق قوماً فبلغ ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لأن النبي قال: لا تعذبوا بعذاب الله. ولقتلتهم كما قال النبي: من بدَّل دينه فاقتلوه".
وجاء في "المغني" لابن قدامه: "أما العدو إذا قدر عليه، فلا يجوز تحريقه بالنار"، وقال ابن تيمية دفاعاً عن أبي بكر: "إن كان فعل علي مما لا ينكر مثله على الأئمة، فأبو بكر أولى أن لا ينكر عليه".