في دولة الفساد والمحسوبيات والسمسرات والصفقات، تتحول نعمة الأمطار الى نقمة، وتنكشف مع كل عاصفة ″عورات″ المشاريع التي يُلزّم معظمها بالتراضي من دون التقيد بدفاتر الشروط، وينفذها المتعهدون لتحقيق مصالحهم ومصالح داعميهم الشخصية، وليس لتحسين واقع الوطن والمواطن.
في دولة الفساد والمحسوبيات يخشى الناس من كل شيء، من العواصف مهما تنوعت أسماؤها، من الطرقات، من حوادث السير، من الموت المجاني، من السلاح المتفلت، من شريعة الغاب، من الاهمال والحرمان ولامبالاة المسؤولين المعنيين الذين لا يقيمون وزنا لمواطنين بعدما باتوا يسيطرون على لقمة عيشهم وصحتهم ووظائفهم وكل تفاصيل حياتهم..
في دولة الفساد والحسوبيات، يبقى المواطن في آخر سلم الاهتمامات، فلا حقوق إنسان ولا كرامات، ولا إهتمام، فيدفع ثمن معيشته دما ودموعا في وطن بات أشبه بغربة، ويعاني على مدار ساعات النهار زحمة سير وإنقطاع في التيار الكهربائي، وتلوث في المياه والهواء والبيئة، ثم يدفع الضرائب والرسوم التي يتنعم بها المسؤولون، ويخضع للقانون الذي يضربه المدعومون وما أكثرهم عرض الحائط..
أسقطت العاصفة ″نورما″ ورقة التوت، وعملت على تعرية المسؤولين والتيارات السياسية المتصارعة على مقعد وزاري بالزائد وآخر بالناقص، والمعطلة لحكومة كانت يجب أن تتشكل منذ سبعة أشهر لمواجهة الأزمات التي ترخي بثقلها على البلاد والعباد وأن تبدأ بمسيرة الاصلاح التي سقطت أمس في مستنقعات ″نورما″ التي كشفت فسادا بالجملة طفى مياه أمطار ومجارير ونفايات على سطح الطرقات وأغرق معها الدولة قبل أن يُغرق المواطنين.
ليست العواصف وليدة صدفة ولن تكون، فهي تتكرر في كل موسم شتاء وهذا أمر طبيعي، لكن في لبنان الوضع مختلف، فكل عاصفة تحمل معها كمّاً هائلا من المآسي والمعاناة لمواطنين سئموا مشاريع غير مطابقة للمواصفات، وملوا التنفيعات لمتعهدين من دون ذمة ولا ضمير مدعومين من رجال السلطة، فيما اللبنانيون يغرقون في آتون إهمالهم وسرقاتهم وسمسراتهم.
بالأمس إكتشف اللبنانيون أن لا شيء في بلدهم صالحا، فالبنى التحتية التي دفعت عليها الملايين من الدولارات غير مؤهلة لاستيعاب كميات مياه الأمطار التي خرجت مع مياه الى المجارير الى الشوارع وحولتها الى بحيرات من الشمال مرورا ببيروت وصولا الى الجنوب، والأنهار فاضت على أهلها وغمرت ممتلكاتهم، والجسور من دون صيانة، والطرقات لم تحتمل المتساقطات فتصدعت وكأن زلزالا ضربها، حتى جدران الدعم التي من المفترض أن تحمي المواطنين إنهارات بفعل سوء تنفيذها وقطعت الطرقات التي تحولت الى مصائد بفعل الحفر والأخاديد التي غمرتها المياه وشكلت أفخاخا للسائقين.
فقط في لبنان تستخدم المراكب المطاطية في الطرقات وتتدخل وحدة الانقاذ البحري لانتشال المواطنين وسياراتهم من الشوارع، وفقط في لبنان تتحول البساتين الى بر مائية، وفقط في لبنان يسبح المواطنون ومعهم النازحون في الشوراع والأزقة، وفقط في لبنان المواطن في خدمة الدولة والمسؤولين والمؤسسات، وليس العكس.
كثيرة هي النكات والمساخر التي تعاطى فيها اللبنانيون مع كوارث الطرقات والبنى التحتية التي خلفتها العاصفة “نورما”، لكن ذلك يعكس واقعا مريرا وأليما، بأننا في لبنان نعيش في كنف دولة المسخرة.