قد يبدو سيناريو الانفتاح بين الرئيس سعد الحريري ودمشق في نظر البعض مجرد افتراض يشبه سيناريوهات الخيال العلمي. لكنّ المطلعين على التحوّلات الإقليمية يعتقدون أنّ الأمر بات واقعياً، بل إنه ربما دخل مرحلة العدّ التنازلي، وأنّ الساعة الصفر لم تَعُد بعيدة.
في أوساط تيار «المستقبل» يقولون: «لا انفتاح ممكناً على دمشق، في ظلّ حكم الرئيس بشّار الأسد، إلّا إذا سبقته تسوية سياسية عادلة ودائمة تمنح الشعب السوري حقوقه وحريته، وتعترف بما تعرَّض له خلال سنوات على يد النظام. وهذه التسوية يجب أن تحظى برعاية وضمانة عربية ودولية، وأن تقود إلى إقامة حكمٍ ديموقراطي في سوريا». وتضيف: «كل كلام على انفتاح أو تطبيع بيننا وبين الأسد، في ظل الواقع الشاذ الراهن، ليس سوى ذرّ للرماد في العيون أو من نوع الأوهام التي يفتعلها بعض حلفاء النظام لغايات معينة. وأساساً، الانفتاح يكون على سوريا الدولة والشعب، لا سوريا النظام».
ويجزم «المستقبل» أنه لا يناور في هذا الموقف المتشدّد من دمشق - الأسد، وأنّ الكلام على المصالحة مع الأسد، تحت ضغط المصلحة السياسية أو الاقتصادية للبلد، أو بناء على مصلحة شخصية للحريري، ليس صحيحاً.
ويعترف المعنيون في «التيار الأزرق» بأنّ لبنان يحتاج حتماً إلى دمشق، ولا ينكرون أنّ هناك حوافز لبنانية عامة تستدعي أن تسقط الجدران بين بيروت ودمشق على المستويات كافة. فلا استقرار سياسياً ما لم تنشأ علاقات يرعاها القانون الدولي مع دمشق، ولا اقتصاد سليماً من دون السوق السورية التي تشكّل مدخلاً إلى سائر أسواق الشرق الأوسط، ولا حلّ لأزمة النازحين إلاّ بعودتهم إلى سوريا.
ولكن، في المقابل، يحرص «المستقبل» على التأكيد أنّ أي انفتاح أو تطبيع للعلاقات بينه وبين دمشق في ظلّ النهج الذي لطالما اتّبعه الأسد في سوريا كما في لبنان وبلدان عربية أخرى، لا يعني القبول بالتعاطي السوري مع المسؤولين اللبنانيين بطريقة التعاطي السابقة.
وتقول الأوساط «المستقبلية»: «صحيح أنّ الحريري يطمح، من زاوية شخصية، وكأي رجل أعمال، ومعه رجال أعمال لبنانيون كثر، إلى الاستثمار في أكبر عمليةٍ لإعادة الإعمار في تاريخ العرب، لكنّ ذلك لا يمكن أن يتمّ إلّا وفق القواعد السليمة والثوابت التي من أجلها كانت التضحيات الكبيرة التي قدّمها «المستقبل» وحلفاؤه في 14 آذار، على مدى سنوات».
ولكن، يبدو منطقياً طرح السؤال الآتي: هل ستكون عودة العرب، الحلفاء الأساسيين للحريري، إلى دمشق، ثم عودة سوريا إلى أحضان الجامعة العربية، مدخلاً إلى تلبية شروطه من أجل الانفتاح على دمشق؟
ثمة مَن يجزم أنّ القوى العربية الحليفة للحريري لن تتسرَّع في التطبيع مع الأسد. فهي حصلت على ضمانات - روسية تحديداً- بأنّ المناخ في سوريا يتغيَّر، وأنّ التسوية فيها آتية وستكون عادلة، وأنّ التدخلات الإيرانية في النزاع السوري ستتراجع ويتقدّم الحضور العربي. وفي هذه الحال، يقول المتابعون، سيكون منطقياً أن يقترب الحريري أيضاً خطوات نحو دمشق، بدعم حلفائه العرب والدوليين وبضمانهم.
وأساساً، لم يكن الحريري في أي يوم مقاطعاً لدمشق الأسد في المطلق، حتى بعد 2005. وذات يوم، في 19 كانون الأول 2009، ومن موقعه في رئاسة الحكومة، زار الأسد في دمشق، بناء على تشجيع عربي، بهدف تسهيل مناخ الاستقرار في لبنان. ويقول أركان «المستقبل» إنّ مسار الانفتاح كان يمكن أن يتواصل لو أظهرَ الجانب السوري تغييراً حقيقياً في النهج الذي كان أساس الأزمة.
ويرى البعض أن مجرّد عودة الحريري إلى الحكم، من بوابة التسوية والشراكة في السلطة مع حلفاء دمشق، من شأنه أن يُسهّل ترميم العلاقات مع العاصمة السورية نفسها، خصوصاً أنّ المرحلة الراهنة قضت بأن يطوي الجميع مرحلياً ملف انخراط «حزب الله» في القتال السوري، وأن يغضّوا النظر عن زيارات وزراء ومسؤولين لبنانيين لسوريا.
يتوقع البعض أن تكون الخطوة التالية، بعد قرارات العودة المتبادلة بين العرب وسوريا، قراراً لبنانياً رسمياً بزيارة دمشق على مستوى القمة. فالرئيس ميشال عون زار دولاً عربية وإقليمية عدّة، لكنه لم يزُر العاصمة السورية حتى اليوم. وفي حال حصول الزيارة، قد لا يكون هناك مبرّر ليقاطع الحريري هذه القمة، علماً أنّ المجلس الأعلى اللبناني - السوري ما زال قائماً كإطار.
سيكون مبرِّر العرب للعودة إلى دمشق هو أنّ إيران قلّصت تدخلاتها في سوريا، ومعها تراجع دور «حزب الله»، في موازاة انحسار حدّة القتال البرّي ومستوى الدعم الذي يحتاجه الأسد للحفاظ على نفوذه في المناطق التي يسيطر عليها. كما أنّ قوى دولية، أوروبية خصوصاً، قد ترفع من حضورها في دمشق لتأمين موطئ قدم سياسي واقتصادي بالغ الأهمية هناك، وهي ستشجع الحريري أيضاً على المبادرة في اتجاه دمشق.
وهناك مَن يعتقد أنّ الكلام الذي أثير أخيراً، في دمشق، عن دعاوى قضائية تستهدف الحريري وأقطاباً في 14 آذار، لا أسس منطقية لها، لكنها قد تصلح للمقايضة إذا اقتضى الأمر مع الدعاوى اللبنانية بحق مسؤولين سوريين.
ويقول محللون إنّ الظروف قد تتيح للحريري أن يقوم بخطوة في اتجاه دمشق، وسيقوم عون وكثيرون بتشجيعه عليها. وأما حلفاؤه المسيحيون في 14 آذار فسيجدون أنفسهم أمام الواقع الصعب، وسيكون وليد جنبلاط في مواجهة التحدّي الأكبر.
ولكن، هل ستكون سوريا ورئيسها أمام مرحلة جديدة تغسل الأخطاء والخطايا القديمة كلها، في لبنان خصوصاً، فيرتاح الحريري وسواه إلى أنّ خيارات التطبيع المحتملة ستقود إلى ما يُراد منها، أم تدور الدائرة على نفسها في لبنان مرّة أخرى؟