ترتبك الطبقة السياسية برمتها. تسعى أحزاب اليسار واليمين المتطرف إلى أن تنهل مما يزرعه ذلك الشارع الثائر دون أن تجرؤ مع ذلك على أن تركب موجة لم تنفخها.
 

قد يكون من الحكمة تأمل الحدث السوداني بتأن وروية وتحاشي الوقوع في التحليلات المتسرعة. فالبلد شديد التعقيد في عجينته الداخلية على نحو لا يمكن تبسيطه إلى صراع تقليدي بين حكم ومعارضة أو بين حراك شعبي وسلطة نظام سياسي. وإذا ما كانت مطالب الناس بسيطة مرتبطة بما يطالب الناس به في فرنسا هذه الأيام، إلا أن في تاريخ السودان، كما في طباع السودانيين، ما يمكن أن يخرج عملاقا كامنا لا تستسيغه دول المنطقة ولا تود ظهوره دول كبرى.

زرت السودان عدة مرات. ولا يمكن للمراقب أن يتناول شؤون البلد دون أن يكتشف في تفاصيل العيش وثقافة وتقاليد البلد ما يمكن أن يكون جديرا بالرؤية والرأي. يختلط داخل السودان عبق عربي عروبي مع آخر أفريقي يتنفس روح القارة السوداء. لكن اللغز الأكبر يكمن في طبيعة السودانيين أنفسهم، الذين يُخبئون داخل قماشتهم أعراقا وقبائل وطوائف ومذاهب، وفق نسق فسيفسائي، يدركه أهل البلد، وقلما أدركه غرباؤه.

في إحدى الزيارات التقيت بالرئيس عمر حسن البشير. بدا حينها أن الرجل قد تخلّص من ثوبه الإسلاموي بعد أن أنهى شراكته مع حسن الترابي، ويسعى للتخلص من إرث عدائه للولايات المتحدة، ويظهر انفتاحا على هذا الخارج، سواء ذلك الذي يَعِدُ باستثمارات أو ذلك الذي يزين للخرطوم خروجا من لوائح الدول المارقة.

في أحد جوانب القصر الرئاسي الخارجية كنت وبعض الزملاء نتأمل نصبا لإحياء مقتل الجنرال غوردون البريطاني الذي قضى في ذلك المكان على يد ثوار سودانيين حاصروا العاصمة ثم اقتحموا قصر من كانت بريطانيا تحكم به السودان وقتلوه. رأى البشير جمعنا فعلّق ساخرا مومِئا إلى أصدقائنا السودانيين أن يقصّوا علينا تلك الحكاية.

قتل الجنرال تشارلز جورج غوردون في 26 يناير 1885. كان يشغل منصب الحاكم العام البريطاني، وقد اختير من قبل بلاده بسبب كفاءته وخبرته وتاريخه وانتصاراته التي لا تنتهي.

جاء مقتل الرجل عقب حصار طويل للخرطوم استغرق 317 يوما. نجح أنصار محمد أحمد المهدي، الثائرون ضد الخديوي المدعوم من الحكومة البريطانية، في إنهاء حياة الجنرال البريطاني الذي كان قد وصل الخرطوم قبل ذلك بأقل من عام. شكل الحدث صدمة في لندن التي لطالما اعتبرته أسطورة، ذلك أن الرجل، الذي لم يعرف في حياته كجنرال سوى الانتصارات المتتالية، يقتل بيد ثوار لا يمتلكون من العدّة والعدد ما كانت تمتلكه بريطانيا العظمى من قوة رهيبة لا تقهر.

قد لا يغيب عن خاطر البشير هذه الأيام تلك الذكرى التي يفتخر بها، كما كل السودانيين، في وقت تزحف الحشود صوب قصره. ولئن لظروف مواجهة الحاكم المستعمر ما يختلف عن ظروف معارضة الحاكم السوداني هذه الأيام، لكن السلطة، أي سلطة، التي لطالما استطاعت بسهولة مواجهة أعمال التمرد المسلحة، تجد صعوبة في التعامل مع حراك شعبي لا رأس له يخرج عن كل السياقات التقليدية المعروفة.

الأمر نفسه يجري في فرنسا هذه الأيام. يزداد الشارع راديكالية. تتطور أعمال العنف على نحو غير مسبوق.

ترتبك الطبقة السياسية برمتها. تسعى أحزاب اليسار واليمين المتطرف إلى أن تنهل مما يزرعه ذلك الشارع الثائر دون أن تجرؤ مع ذلك على أن تركب موجة لم تنفخها، فيما يبدو واضحا أن أحزاب اليمين واليسار التقليدي تأخذ مسافة واضحة من ذلك العبث على الرغم من حقدها على إيمانويل ماكرون الذي ظهر فجأة وأبعدهم جميعا عن الإليزيه والبرلمان والحكومة في البلاد.

لا يبدو أن حراك الناس في السودان ينتمي إلى أي سياقات سياسية تقليدية في معارضتها للبشير وحكمه. بدا أن الرئيس السوداني يتمنى أن تستعيد تلك المعارضة، حتى تلك المنتمية إلى عائلات الميرغني والمهدي السياسية، موقعها داخل المشهد السياسي، فهي ملف خبر التعامل معه استيعابا أو مواجهة أو قمعا أو إبعادا.

يرمي البشير في الخرطوم، كما ماكرون في باريس، الجزرة تلو الجزرة علّها تخفف من غضب الغاضبين، فيما تبدو عصاه غليظة تقتل متظاهرين، بينما ما زالت عصا ماكرون فرنسية الهوى لم تسفك دماء حتى الآن.

استطاع البشير منذ انقلابه عام 1989 حكم البلاد دون أي منازع. وسّع من دائرة نفوذه فأطاح بأحزاب تقليدية كبرى لطالما شغلت الفضاء السياسي السوداني. تقدم بإسلاموية مفرطة لاذ تحت سقفها كارلوس وأسامة بن لادن الشهيران. لاح أن الرجل القوي في الخرطوم أحاط نفسه بمشاهير من يناصب العداء للولايات المتحدة. في عهده قصفت الطائرات الأميركية ثم الإسرائيلية قلب السودان. بيد أن البشير الذي أظهر تصلبا في مواجهة أعدائه في الجنوب كما دارفور، أظهر بالمقابل براغماتية ورشاقة، فطرد بن لادن وسلّم كارلوس دون أن يرف له جفن.

يثور الشارع السوداني ضد البشير نفسه. عندما بدأ موسم “الربيع العربي” خرجت في السودان ولأسباب محلية بعض المظاهرات المطلبية الموضعية. وحين طاب لبعض المتظاهرين أن يرددوا لازمة “الشعب يريد إسقاط النظام”، أسكت المتظاهرون الآخرون تلك الحناجر، فلا أحد في السودان يريد سقوط النظام. اختلف الوضع هذه المرة، بات الشعار يتردد بصراحة ويدعو، كما في فرنسا، إلى رحيل الرئيس. بيد أن البشير أخرج إلى الواجهة للرد على معارضيه بضاعة عربية لا تفنى لا يملكها ماكرون ونظامه.

كشف الرئيس السوداني خصومه. إنها إسرائيل التي تتآمر وتحرك أهل السودان ضد حكمه كما حركت أهل الجنوب ودارفور ومناطق أخرى قبل ذلك. هي تفعل ما أخبرنا بشار الأسد ومعمر القذافي أنها تفعله في بلديهما. تحدث البشير عن المندسين، وهم طائفة فضائية عابرة للقارات تخترق المعارضين وتفخخ مرادهم، وهم إذ ما حطوا الرحال في السودان فهم وراء “تخريب” يستهدف الأمة برمتها.

تقادم حكم البشير. لم يعد باستطاعة الرجل أن يخرج الأرانب من أكمامه. بات مطلوبا أن تحكم البلاد بمنظومة أخرى. تساقط حلفاء الرجل الذين رافقوه منذ اليوم الأول للانقلاب واحدا بعد آخر. حتى مستشاريه المقربين سبق أن حُيّدوا أو حَيّدوا أنفسهم عنه وعن بطانة حكمه.

حين كنت أزور البلد، كنت أشاهد عمارا يجري لم تشهده البلاد قبل ذلك. تكرر أمامي أن السودان سلّة الغذاء العربي وأن من طموحاته أن يكون بوابة أفريقيا على العالم. كان الصينيون يزرعون الخرطوم أبنية شاهقة وورشهم تبني سدودا جديدة تشرب من مياه النيل. كان أهل الحكم يتحدثون عن جبل من اليورانيوم يلمع في دارفور ومناجم من ذهب وألماس تشتهي من يقطف ثمارها.

وكان للزائر أن يشاهد مجسمات لبناء مدينة عالمية حديثة على ملتقى النيلين الأزرق والأبيض تضاهي مدينة دبي كما كانوا يطمحون.

يخرج السودانيون مطالبين بالخبز ويخرج أهل الحكم لتبشير الناس بخفض أسعار الخبز. الأمر يجري في القرن الحادي والعشرين. سقط الحديث عن “سلة الغذاء العربي” وعن بوابة أفريقيا الأولى وعن ثروات المعادن والمياه وعبقرية الجغرافيا. الناس يبحثون عن الخبز بعد 138 عاما على مقتل الجنرال غوردون.