فترة هدوء نسبية شهدتها السودان طوال فترة الربيع العربي، إذ لم تُنظّم تظاهرات حقيقية وقوية ناشطة كتلك التي حصلت في بلدان الربيع العربي، رغم الظروف المعيشية والإقتصادية الصعبة.
وفي زمن بدأت موجات الربيع العربي تنخفض، وتبحث بلدانه عن الهدوء والسلام، إنتفضت مدن السودان فجأةً مطالبةً بإسقاط نظام الرئيس عمر حسن البشير.
حيث تشهد العديد من المدن السودانية إحتجاجات وتظاهرات منذ 19 كانون الأول 2018 إستنكاراً لإرتفاع الأسعار وغلاء المعيشة.
وواجهت القوى الأمنية السودانية هذه التظاهرات، وحصلت مواجهات دامية، إستدعت إطلالة إعلامية للبشير وصف فيها الوضع بأنه مؤامرة.
ولا شك أن أسباب التظاهرات الحقيقية هي معيشية بالدرجة الأولى، لكن توقيتها له دلالات، خصوصاً بعد عدة إستحقاقات حصلت، أولها زيارة البشير إلى دمشق ولقائه بالرئيس السوري بشار الأسد، وثانيها تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عن تطبيع للعلاقات مع السودان.
وسبق هذه التظاهرات أيضاً إستحقاقات أساسية أخرى، منها التوتر الذي حصل بين السودان وإيران وإغلاق المكاتب الثقافية الإيرانية في الخرطوم، كذلك المشاركة الكثيفة للجيش السوداني في الحرب اليمنية، حيث تُعتبر عناصره عصب القوة البرية للتحالف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية في حربها ضد حركة أنصار الله (الحوثيون).
إقرأ أيضًا: نورما تُعرّي الدولة اللبنانية
وربطاً بهذه الإستحقاقات كلها، فإن نظام البشير يقف على فالق من الزلازل السياسية والجيوسياسية أيضاً.
فالسودان يُعاني إقتصادياً رغم ثرواته الطبيعية والمادية الضخمة، لكن فقدانه لـ 70% من عائدات النفط جراء إنفصال جنوب السودان عنه عام 2011 زاد من مشاكله. وهذا ما إنعكس على الأوضاع المعيشية للمواطن السوداني وجعل البشير يتجه نحو خيارات سياسية متقلبة.
لكن نظام البشير إلى الآن لا يزال يُشكِّل عامل أمان للعديد من ملفات المنطقة، ويخدم أجندات سياسية أفريقية وعربية وإسلامية ودولية.
فهذا النظام ورغم مذكرة التوقيف الصادرة بحق رأس هرمه من قبل المحكمة الجنائية بقضية جرائم الحرب في دارفور، لا يزال قادراً على خلق أكبر شبكة علاقات سياسية إستراتيجية .
إذ أنّه يضمن إلى الآن عدم جرّ السودان إلى حرب مع جنوب السودان، وإستطاع عقد صفقة معهم رغم بعض الإختلافات الحاصلة. (جنوب السودان على علاقة قوية بإسرائيل).
كذلك، هو يُشكِّل عامل أمان للجمهورية العربية المصرية، حيث أن مصر من مصلحتها أن يكون نظام الحكم في السودان مستقراً لكي لا تتكرّر التجربة الليبية والتي أدّت إلى تسرّب الإرهابيين عبر الحدود الليبية - المصرية. أيضاً، فإن حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي يتزعمه البشير والمنفصل عن الإخوان المسلمين، هو عامل مهم لردع حراك الإخوان فلا تُشكِّل حينها السودان مدى حيوي لهم.
إقرأ أيضًا: أزمة إقتصادية مستمرة... تضخّم في القطاع العام وشيطنة للخصخصة
أميركا هي الأخرى مهتمة بإستقرار النظام السوداني، فهو يكفل أن تكون منطقة البحر الأحمر آمنة لجهة عبور ناقلات النفط وباقي السفن.
والكلام عن تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل هي مصلحة لأميركا أيضاً.
أما على الصعيدين العربي والإسلامي، فإن نظام البشير لا يزال جيّداً في كيفية إيجاد توازن ما في علاقاته بين تركيا وإيران والسعودية.
وهناك إتفاقية تعاون إستراتيجية مشتركة بين السودان وتركيا ، مع توجّه تركي للإستثمار داخل السودان.
وبالتالي، فإن النظام السوداني وإستقراره هو مصلحة للخارج قبل أن يكون مصلحة خاصة للبشير، وهذه التظاهرات في أسبوعها الثالث، لا يُعرف كيف ستنتهي، لكن على ما يبدو أن البشير سينفذ منها هذه المرة أيضاً إلا في حال حصول طارىء غير متوقع أبداً.
باختصار، لم تحنْ حتى الآن ساعة نظام عمر حسن البشير ، هو قادر على الإستمرار والحفاظ على نظامه مُستغلاً تناقضات الخارج وحاجته له، ومعارضة داخلية غير معروف مدى تماسكها وقدرتها في الإبقاء على الحشود في الشارع.