سبق أن أشرت إلى الحادثة التي تعرضت لها عندما كنت في السابعة من عمري؛ سألتني معلمة الصف في مدرسة ذات طابع مذهبي معين، عن طائفتي. وهي كانت توجه السؤال نفسه إلى جميع بنات الصف، فتقف واحدتهن وتجيب بكل ثقة عن مذهبها السائد في المدرسة. لكني لم أكن على مثل هذه الثقة إذ كنت أعي أنني أنتمي إلى مذهب مختلف عن مذهبهن وأنني أمثّل أقلية بينهن وأن إجابتي سوف تكون إشهارا لاختلافي وربما سببا غير مباشر لتغير نظرتهن إليّ أو لنبذي! وأنا لم أكن أريد أن أكون مختلفة عنهن. ربما لشعور خفي ومضمر بأن نظرتهن إلى طائفتي المختلفة فيها بعض التمييز الحامل لنوع من الاستعلاء. لذا جعلني توجسي من اختلافي أجيبها أنني لا أعرف ما هي طائفتي أو مذهبي وأصررت على هذه الإجابة رغم استغرابها.
طائفتنا في هذا البلد تكاد تسبق اسمنا، على تذكرة الهوية التي لا يمكن أن تصدر دون تدوين المذهب.
لكن هذا المشهد انطبع في مخيلتي وجعلني أعرف تماما معنى الاختلاف ومعنى الهويات في معارك المذاهب اللبنانية، ومعنى النظرة التي تدين الاختلاف أو تعامله كدونيّ وكأقلوي. وجعلني ذلك أعي أن توجيه السؤال بهذه الطريقة، وجمع المعلومات هذا، فيه الكثير من التمييز الذي يقترب من العنصرية وهو أمر مؤذٍ للبنت الصغيرة التي كنتها ولو لم يكن مقصودا.
متى استعدت هذه الحادثة؟ استعدتها في العام 2002 عندما عملت على تقرير المراهقة العربية. ومن بين الحالات التي درستها كانت حالة شاب مسيحي قابلته في كلية التربية وهو أحد طلابها. اخترته من بين الحالات التي عمدت إلى تعيينها للدراسة من ضمن الكوتا المسبقة التي عملت على اختيارها لتمثل جميع المكونات اللبنانية، سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو الطائفية والسياسية بالطبع. اخترته لأنه ينتمي تحديدا إلى تيار القوات اللبنانية. لكن هذا الشاب لم يخف فقط من الاعتراف أمامي بانتمائه الحزبي، لا بل شعرت خلال المقابلة بمدى القمع الذي يتعرض له والشعور المقلق بالاضطهاد والتمييز وانعدام القدرة على إظهار الاختلاف وإشهاره للنتائج السلبية التي قد تنتج عنه.
في لبنان، نتبادل أدوار التمييز ودورات الغلبة والتفوق وكل طائفة أو فئة تمر بمرحلة تعتقد فيها أنها أكثر تفوقا من الأخرى وأكثر أحقية بالاستئثار بالقرار لأنها متميزة ولأنها الأقوى ولأنها تنتمي إلى عالم آخر أفضل أو أطهر، ما يعطيها الشعور بالتميز عن بقية المواطنين.
وسوف أورد مثالين لإظهار معنى ما أقول: في العام 1990 اضطرتنا الظروف للسفر إلى مالطا بسبب ما عرف في منطقتنا بـ"حرب عون" (الرئيس الحالي ميشال عون). وكانت ابنتي في نهاية مرحلة دراسية وبدء أخرى وعليها الانتقال من الدراسة حسب النظام الفرنسي إلى النظام الإنكليزي، ولغة مدرستها اللبنانية الأولى هي الفرنسية. كان هذا سببا للنقاش الذي حصل بيننا وبين الراهبة المسؤولة عن المدرسة التابعة للكنيسة الكاثوليكية في مالطا حول المواد التي يمكن لابنتي اختيارها بحيث تسهل عليها فهم اللغة الإنجليزية من أجل النجاح في النظام الإنجليزي الجديد عليها. وفكرنا أن الدين مادة سهلة الاستيعاب ويمكنها أن تدرسها وأشرنا بذلك إلى الراهبة المسؤولة، التي نظرت بدورها إلينا مذهولة، ثم شزرا، وقالت ما هي ديانتكم؟ هل أنتم موارنة؟ قلت: إننا مسلمون!
فردت قائلة موارنة أو مسلمون الأمر سيان ـ ما دمنا غير كاثوليك! ـ الدين هنا مادة جدية فاختاروا مادة أخرى!
تساءلت في سرّي: ماذا كان سيشعر اللبناني الماروني لو كان في مكاني وسمع هذا الكلام؟ ألن يعده عزلا له عن العالم والثقافة التي يشعر أنه ينتمي إليها؟ ألم يصبح جزءا من الكنيسة الغربية؟ والبعض منهم يفاخر على المواطنين اللبنانيين بذلك ويشعر بالتفوق عليهم جراء ذلك؟
ثم ألم نسمع جميعنا النوادر التي أطلقت بعدما هاجر اللبنانيون ـ والمسيحيون من بينهم ـ (أقصد العاديين منهم وليس طبقة المثقفين أو السياسيين) إلى فرنسا ظانين أنهم سوف يستقبلون كمواطنين فرنسيين وكمنتمين إلى الثقافة الغربية! فيما تسببت لهم عاداتهم الثقافية اللبنانية بأنواع من سوء التفاهم مع محيطهم وجيرتهم. فلقد نقل أن فرنسية اضطرت مرة للجوء إلى الشرطة لكي تتخلص من جارتها اللبنانية التي تدعوها بإلحاح كلما التقتها في فسحة الدرج، على فنجان قهوة يوميا!
شعر المسيحيون حينها أن تمايزهم هو هنا في لبنان أما في فرنسا فهم عرب ولبنانيون. أي ينتمون إلى عالم آخر وثقافة أخرى.
الأمر نفسه ينطبق على الشيعة الذين يذهبون إلى إيران ويكتشفون أيضا أنهم أيضا يعاملون كعرب وبنوع من التعالي العنصري المعروف جيدا! والآن بنبذ وكراهية بسبب أدوار #حزب_الله والدعم المالي الذي يتلقاه من حكومتهم في ما يعتقدون أنه من حقهم.
وأكثر من عرف هذا الشعور هم شيعة العراق الذين هاجروا إلى إيران أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية وتعرضوا للعزل في مخيمات، وسنّت قوانين تمنع تسهيل زواجهم بإيرانيات.
فلماذا لا يهاجر اللبنانيون الشيعة إلى #إيران إذن؟ لماذا يتوجهون إلى الغرب للطبابة والتجارة ولتعليم أولادهم وللحصول على جنسيات!
وهذا الكلام ليس لتحريك مشاعر عنصرية أو شوفينية ولكن لكي أقول إن تمايز اللبناني وخصوصيته ووجوده نفسه لا يتحقق ولا يكتسب سوى هنا في لبنان، وإن انتماءه إلى لبنان هذا هو مصدر حمايته ومنعته وقوته وعزته وحقوقه، وليس أي انتماء آخر، ولا أي استقواء من أي نوع بالخارج مهما كان هذا الخارج من الدين نفسه أو الطائفة نفسها.
في لبنان لدينا صعوبات جمة ولا بد أن كل واحد منا تعرّض لحادثة من النوع المذكور أعلاه في لحظة ما من وجوده، وكل طائفة عرفت لحظات قوة أو لحظات ضعف. وعلى الأرجح لا بد أننا اختبرنا الجروح النفسية ومشاعر عدم الراحة هذه والتمييز في لحظات مختلفة من وجودنا.
لماذا أشير إلى تمييز يكاد يكون "عنصريا" عندما لا أستطيع أو لا أجرؤ إظهار اختلافي؟ وما الفرق بينه وبين التمييز العرقي؟ ـ ولو أنه لم يعد يصح الآن ـ ذلك أن النظرة إلى العرقية تغيرت الآن وهي لم تعد مؤسسة على النقاء العرقي والبيولوجي (بعدما تبينت أن أصولنا واحدة) بل استبدلت بـ"الهوية الثقافية الحقيقية". كما تم التخلي عن مفهوم اللامساواة لمصلحة المفهوم المطلق للاختلاف. وانتقل الخوف إلى ميدان اللاتمايز المستوعب ضمن سياق من الانحطاط.
إن عدم القدرة على إظهار الاختلاف هو الذي يثير الشعور بالانسحاق، وأن لا تتجرأ على إعلان اختلافك وأن تُقبل به وعبره كمساوٍ للآخرين. فالاعتقاد الذي ساد أن الإنسان يخاف من الاختلاف، وأن هذا يشكل جوهر العنصرية؛ لكن الممارسة أظهرت أنه غير صحيح. إن ما يخاف منه الإنسان هو اللاتمايز الذي ينتج التفتيت الاجتماعي، لماذا؟ لأن وحدة الكل تفترض تمايزه، أي وضعه بشكل تراتبي ـ شرط عدم الخلط بين التراتبية واللامساواة.
أما المساواة النافية لمبدأ الاختلاف فهي سبب الخوف المتبادل. يخاف الإنسان من "الهو ـ نفسه". لأن هذا يمحي وجوده ويصبح أقرب إلى رقم. وهذا هو منبع مشاكل التمييز العنصري.
لكن هناك خطر آخر وهو أن يشكل "الحق بالاختلاف" كنوع من إرادة للنبذ ـ كما تفعل لوپن في فرنسا ـ وكغطاء لنوع جديد من التمييز العنصري، تحت شعار "احترام الهوية والثقافة الخاصة بالجماعة"، الذي يكشف عن الخوف من الاختلاط.
وهذا ما أصبح ظاهرة لافتة بدأت منذ فترة بالحديث عن "ثقافة شيعية مختلفة"، وانتهت بالاقتناع بها مرحليا. والخوف من أن تعم باقي المكونات اللبنانية قبل استعادة الدولة لسيادتها.