في أعقاب التهليل اللبناني لمؤتمرات الدعم الدولية، التي عقدت لمساعدة لبنان. كان هناك من يقرأ المشهد بصورة مغايرة. ويعتبر أن ما يجري هو عبارة عن التحضير لوصاية جديدة على البلد، على قدر من التجميل، أو مرتدية قفازات حريرية، تمويهاً يبعدها عن أي علاقة بالسياسة.
تحول كبير في التحالفات؟
هكذا، عمل لبنان بحماسة لإنجاح مؤتمر روما (لدعم الجيش والقوى الأمنية الرسمية)، ومؤتمر بروكسيل لدعمه بملف اللاجئين (وتوفير المساعدات المطلوبة لتمكينه من تحمّل أعباء استضافة اللاجئين)، وصولاً إلى مؤتمر سيدر، الذي يتضمن خططاً ومشاريع في مختلف المجالات.
وفي الوقت الذي سعى فيه بعض أطراف السلطة إلى الاستثمار السياسي داخلياً، لهذه المؤتمرات، كان هناك من يعتبر أن لبنان سيكون مقبلاً على تحول جديد في وجهته السياسية. وأحد أشكال هذه الوجهة الجديدة، بدأت تبرز في الشارع، من خلال التحرّك الأول الذي دعا إليه المجتمع المدني، متأثراً بالحراك الفرنسي (السترات الصفر)، وما تخلله من شغب في بعض شوارع بيروت. ليأتي الإضراب الشامل الذي دعا إليه الإتحاد العمالي العام، كمقدمة للصفحة التي يقبل لبنان على فتحها.
قراءة المعطيات، إستناداً إلى بعض الهمس الدائر في الكواليس السياسية، يشير إلى أن الحراك الأول والثاني، لن يقفا عند هذا الحدّ. ما يجري هو عبارة عن مقدّمة لمرحلة جديدة سيدخلها لبنان، لن تكون بعيدة عن الصراع السياسي، بل في صلبه، إنسجاماً مع المعادلات الإقليمية. ووفق ما تشير قراءة بعض المطلّعين، هناك من يعتقد أن ثمة إعادة خلط للأوراق في لبنان على صعيد التحالفات الكبيرة، وما يجري في الشارع يعبّر عن هذه المتغيرات. إذ أن الرسائل من وراء التحركات موجهة مباشرة إلى ثنائية الحريري - عون، تحذيراً لهما مما يعتبره هؤلاء اتفاقات سرية بين الطرفين، يجسدها الحريري - باسيل. اتفاقات تنسجم مع التزامات خارجية تجاه بعض الدول، لا سيما الولايات المتحدة. فالأميركيون يحضّرون لمرحلة جديدة في لبنان، تبدأ بتعزيز هذه الثنائية، ولا تنتهي بالعقوبات المفروضة على حزب الله.
هذا ما يجب مواجهته، بالنسبة إلى الحزب وحلفائه.
ضد باسيل - الحريري
مشهد التحركات في الشارع، وصولاً إلى اضراب الاتحاد العمّالي العام، يأتي (وفق القراءة آنفاً) منسّقاً مع رئيس مجلس النواب، والحزب التقدمي الإشتراكي، وبعض الحلفاء، يشير إلى إنقسام سياسي جديد في لبنان، بين هذه القوى الداعمة للإضراب، والقوى المتحالفة في السلطة الساعية إلى تحقيق ما تريده بناء على اتفاقها الثنائي. أي هو تحرك بوجه التيار الوطني الحرّ وتيار المستقبل، أو بمواجهة ثنائية الحريري باسيل. هذه الثنائية التي تعرّضت للكثير من الانتقادات، ومن المواقف العلنية التي خرجت رافضة العودة إلى حكم لبنان وفق منطق الثنائيات. منطق يتضرر منه كل من حركة أمل والحزب التقدمي الإشتراكي وحتى حزب الله.
المجتمع الدولي أو الوهم
ليس الإنسجام الكامل بين باسيل والحريري في موضوع تشكيل الحكومة، أمر بعيد عن كل ما يجري. وعلى الرغم من بعض الاختلاف التكتيكي، على حصة من هنا أو مقعد من هناك.. فعلى ما يبدو أن ثنائية باسيل الحريري عصية على أي كسر أو تفكيك، ولو اقتضى الأمر تنازل الحريري عن جزء من صلاحياته أو حقوقه لصالح باسيل أو رئيس الجمهورية، على اعتبار أن ما يجمع بينهما أبعد من هذه "التفاصيل". استعادة زخم العلاقة وشد أواصرها، يأتي كنتيجة طبيعية لإعادة إحياء الثنائية (المارونية - السنّية) وتجديد العلاقة وترميمها بعد تعرّضها لنكسات في الفترة السابقة.
ويجتمع الرجلان على مبدأين أساسيين، طموح باسيل الرئاسي، وتمسك الحريري بأن يبقى رئيساً للحكومة. ولذلك، يلعب الرجلان على حبال متنوّعة، جميعها تبقى تحت سقف لا يخفيه الحريري، حين يعتبر أنه مدعوم من قبل المجتمع الدولي، ويقف إلى جانبه. وبالإستناد إلى هذا الدعم الدولي، يعتبر نفسه حاجة للجميع، لما يمثّله من مظلّة دولية للبلد. وهذا ما يعتبره أفرقاء آخرون أنه مبني على وهم، وينطلق من وهم.
هناك من يعتبر في لبنان، أن الحريري وعون وباسيل ضمناً، ينطلقون من توصيف أطلقوه على التسوية التي أبرموها، وتشبيهها بميثاق العام 1943 بين بشارة الخوري ورياض الصلح، وبالتالي هم المخولون باستعادة هذه الثنائية وتثبيتها في آلية الحكم بلبنان. الأمر الذي ينظر إليه الآخرون على أنه سيؤدي إلى المزيد من الفوضى والضعف. وليس مشهد التحركات الشعبية إلا مقدّمة لذلك (للتذكير: بدأت 7 أيار 2008، تحت غطاء الحراك النقابي).
ورقة الفوضى
ولا شك أن الحلقة الأضعف في كل ما يحدث، سيكون الحريري نفسه، لأن نهاية هذا الوجه الجديد من النزاع في البلد، ستكون مسؤوليتها على عاتق الحريرية السياسية. وهناك من سيتعمّد تفجيرها بوجه الرئيس سعد الحريري، سواء عبر استعادة مشابهة لـ"الإبراء المستحيل"، أو عبر استعادة نغمة التصويب على سوليدير، وما يرتبط بها اقتصادياً ومالياً واجتماعياً. كلها سيتحمّل مسؤوليتها الحريري. وبلا شك أن ورقة الفوضى في لبنان، يجري استخدامها واستثمارها في مواجهة كل من يريد تغيير المعادلة. وبمعنى أوضح، لا يمكن الدخول في أي تركيبة سياسية للحكم، بمعزل عن حزب الله. وأي تهديد داخلي أو خارجي للحزب، سيؤدي إلى المزيد من المخاطر والتوتر بالشارع.
عندما تذهب الأمور إلى إحتجاجات مطلبية ورفع شعارات محاربة الفساد، غالباً ما يكون حزب الله بمنأى عن تداعياتها، وإن قُذفت بوجه الآخرين. ومن الواضح أن التحركات التي بدأت مع العدوى اللبنانية للسترات الصفر الفرنسية، سيكون لها وظائف عديدة، لاحقاً. وهي ستكون جاهزة لمواجهة أي محاولة لتهميش دور حزب الله، تحت أي مسمى من المسميات، ومهما كان الشعار المرفوع، كمتوجبات دولية، أو الحرص على مصالح لبنان الخارجية وما إلى هنالك. ولذلك، هناك من يعتبر أن الهدف البعيد المدى من المؤتمرات الدولية والاقتصادية الداعمة للبنان، هو تطويق حزب الله، أو وضعه تحت سقف المراقبة والتكبيل.
وهذه بالتأكيد لن تمرّ مرور الكرام عند الحزب، الذي يريد من الآخرين أن يشكلوا حصناً منيعاً في الدفاع عنه، وليس طعنه في ظهره. وأحد أوجه تكريس هذا المبدأ ليس فقط التحالفات السياسية التي يبرمها، أو حاجة الأطراف إلى غطائه، لتحقيق ما تسعى إليه في تركيبة السلطة. بل أيضاً، يعزز موقعه هذا من خلال الإمساك بكل المفاصل الأساسية في البلد، سياسياً ومطلبياً، ومن خلال استباق التحركات في الشارع. وبذلك سيكون حزب الله على رأس السلطة وعلى رأس المعارضة في الوقت نفسه، من دون أن يكون في الواجهة. يختار هو من سيكون في السلطة، ممن يلتزمون تقديم حسن الأداء والسلوك إليه، كما يختار هو من سيكون في المعارضة.. لتأديب من هم في السلطة.