لوهلة، بدا وكأن تيار المستقبل نفسه هو الذي قدم نائبته رولا الطبش قرباناً.
لم يكن أحد يتصور ان يضيع التيار مثل هذه الفرصة الذهبية لحماية نفسه، وللجهر بهويته، والدفاع عن برنامجه..وعدم السقوط في فخ الغلو والجهل.
ما زال يصعب التصديق أن التيار لزم الصمت على ما فعلته عضو كتلته النيابية في كنيسة مار الياس في انطلياس في قداس للمحبة والسلام، ولم يبادر من اللحظة الاولى الى التباهي بان السيدة رولا تختزل صورته الحقيقية العابرة للأديان والمتعالية على الطوائف والنابذة للمذاهب، برغم ما في مثل هذا الموقف من إفتعال وإفتئات. فهو من الأفك المحمود، والمرغوب، والراسخ في الاجتماع اللبناني.
ما زال يصعب التصديق ان التيار لم يلجأ من اللحظة الاولى الى إحتواء الموقف ببيان داعم للنائبة الطبش، يسكت ألسنة السوء التي نالتها من "المستقبليين" أنفسهم، قبل سواهم من الغيارى على الدين والمذهب، الذين لا يفقهون الاثنين، ولا يدركون أبسط قواعد العمل السياسي، وقوانين العمل الاجتماعي.. لكنهم نجحوا، لسوء الحظ، في محاصرة شخصية مدنية، مسلمة سنية، وإجبارها على الاعتذار، عن سلوك لا يستحق سوى الفخر.
ما زال يصعب التصديق أنه بدلاً من أن يتم إستقبال النائبة الطبش من قبل رئيس التيار وبقية اعضاء الكتلة، تم إرسالها الى دار الفتوى لتلاوة الشهادتين، لكي يطمئن المسلمون السنة، الى أن ممثلتهم في البرلمان اللبناني لم تتخل عن وكالتها، ولم تخرج عن دينها، ومذهبها، ولم تنقض مرجعيتها الروحية..التي منحتها المناسبة دوراً لم تحلم به، وفرصة لا تعوض.
هي ضربة مؤلمة، ليس للتيار طبعا الذي أدمن على تقديم الأضاحي والقرابين، بل لجمهور واسع من السنة، ومن الشيعة، لا يجد غضاضة في حضور القداديس ونيل البركات، وحتى التناول، ولا يعتبر الكنائس أو المساجد محرمات، ولا يرى في رجال الدين أكثر من مؤرخين.
أما الزعم أن الضغط كان هائلاً من الشارع على النائبة وعلى التيار ، فهو زعم مردود، يقيس الرأي العام من وسائل التواصل الاجتماعي، بما فيها من غلو وجهل، كشفا في الايام الماضية، عن تردٍ شديد في ثقافة بعض السنة، الذين كان يفترض أنهم أقل من الشيعة إلتصاقاً بمؤسساتهم الدينية وأحزابهم المذهبية.. فإذا بهم يبحثون عن براهين واهية لعصبيتهم، وأدلة ضعيفة على قوتهم من خلال التضحية بأقلهم قدرة على حماية نفسها.
هو إنعزال جديد للسنة، وإنغلاق إضافي للشيعة الذين ما عاد يمكن لأي منهم ان يظهر بادرة مدنية، ذات محتوى إجتماعي، لا سياسي، من دون أن يضطر الى طلب التوبة والغفران من مراجعه الدينية التي لا شك أن مثول النائبة الطبش في دار الفتوى، يشجعها على إستدعاء الكثيرين من المدنيين الشيعة لتقديم فروض الطاعة والولاء والبراء.
قيل أنه تردٍ طبيعي لثقافة السنة، والشيعة على حد سواء. هذا صحيح. وقيل أيضاً أنه إنهيار إضافي للوعي الوطني، أو على الاقل للإدعاء الوطني. وهذا دقيق. لدى المسيحيين عامة وعي متجدد أيضاً لهويتهم الدينية، ولأفكارهم الإنفصالية، ساهم في تشكيله إنتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية، وساعد في تعميمه بروز ظواهر التطرف الاسلامي، السنية خاصة.. ما يهز جوهر التعايش الذي لم يكن في الاصل متيناً.
ما يبدو أنه حدث عابر، ستحفظه الذاكرة بصفته نكسة وطنية.