لمرّتين متتاليتين، كرّر رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، موقفه اللافت عن الدولة المدنية. الموقف الأول، أطلقه في لقاء الأربعاء النيابي، بعد عيد الميلاد المجيد. والموقف الثاني، أطلقه في لقاء الأربعاء بعد عيد رأس السنة. المناسبة التي دفعت برّي إلى إطلاق الموقف الأول، كانت تصريحات الرئيس ميشال عون من بكركي في قداس الميلاد، التي وصف المعركة السياسية الجارية بأنها تهدف إلى إرساء أعراف وتقاليد جديدة في البلد. التقط برّي سريعاً الإشارة ولم يفوت فرصة الردّ عليها.
الاستياء من الرئيس
كلام عون كان موجهاً إلى الثنائي الشيعي. فردّ برّي على طريقته. أي الذهاب أبعد من المتوقع، ومباشرة نحو أقصى السجال. هكذا طرح الدولة المدنية، للخروج دفعة واحدة من كل هذه الأعراف والتقاليد. ومن يعرف برّي جيّداً، يستطيع تقدير لحظة اختياره وانتقائه للموقف الذي يطلقه، وربطه بجملة تطورات. وغالباً ما يكون الموقف منساباً من جملة تعقيدات، لا حلّ تفصيلياً لها، ولا أفق واضحاً للخروج منها. عندها، يطرح "العنوان الكبير" لنقل المعركة من مكان إلى آخر. أو بالأحرى إلى ميدان أوسع.
عبّر برّي، في طرحه، عن استيائه من مواقف عون التي يمكن اعتبارها استنسابية، وربما تدلّ على أن همّه ليس عمل المؤسسات وانتظامها، إنما مواءمة عمل المؤسسات مع مصلحته. أما حين يتعارض المساران، فعلى الأرجح، يغلّب عون منطق مصالحه على حساب منطق المؤسسات. وهذا تكرر في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وتعطيل المؤسسات لسنتين ونصف إلى أن استطاع عون تأمين فرصة انتخابه، فأعاد تفعيل عمل المؤسسات. والكرّة أعيدت أكثر من مرة. قبل الانتخابات الرئاسية، في عرقلة تشكيل الحكومات، كرمى لعيون صهر الجنرال. وبعد الإنتخابات، في عملية تشكيل الحكومة، حين كان عون يعرقل الصيغ، التي تقدّم بها الحريري، بما أنها لم تتلاءم مع مصلحته في تحجيم القوات اللبنانية. وحين تحقق له ما أراد، أصبح مستعجلاً لإنجاز التشكيلة، لجملة أسباب، أولها إنقاذ عهده، وثانيها إنجاح القمة الاقتصادية العربية، التي ستستضيفها بيروت.
الضرب تحت الحزام
لم يحتمل الثنائي الشيعي موقف عون، واتهامه لحزب الله وحركة أمل في اختراع أعراف جديدة. وفيما آثر حزب الله الصمت، لجأ برّي إلى "سلاحه الثقيل"، وهو التلويح بالدولة المدنية. يعرف برّي أنها غير قابلة للتحقيق (على نسق "إلغاء الطائفية السياسية"). لكن اللجوء إلى طرحها، له جملة أهداف، أولاً الضغط على عون كممثل للقوة المسيحية، التي تخشى خسارة المزيد من الإمتيازات، وثانياً فتح الباب بشكل موارب على نقاش لتعديل الدستور. ومعلوم، أن الجانب المسيحي، ربما يخشى من الدولة المدنية أكثر من المثالثة، التي يجري الحديث عنها في بعض الكواليس، والتي تعتبر أنها تكافئ الشيعية السياسية بعد تنامي دورها، منذ الحرب الأهلية إلى اتفاق الطائف ومجمل التحولات الكبرى التي حملتها السنوات الأخيرة. وبما أن الشيعية السياسية تنسب إلى نفسها مهمة المقاومة، وإنجاز التحرير، وحماية الحدود، بالإضافة إلى تناميها العددي والسياسي، فلا بد أن يترجم ذلك في صيغة النظام.
كان عون سابقاً يوافق على منطق المثالثة. لكن هذا كان قبل وصوله إلى رئاسة الجمهورية. وهو سار في ركب هذا الطرح سابقاً، أملاً بتعزيز حظوظه في الوصول إلى بعبدا. أما وقد وصل، فإن أقصى ما يتعارض مع رئاسته و"قوته" وشعاراته المسيحية، هو المثالثة، أو أي طرح لتعديل الدستور، وضرب مفهوم المناصفة، التي تحفظ الامتيازات السياسية والدستورية للمسيحيين. اعتراض عون على "الأعراف الجديدة"، وردّ برّي عليه بطرح الدولة المدنية، هو عبارة عن ضرب تحت الحزام بين الشيعية السياسية والمارونية السياسية.
غاية الإضراب
لا يمكن فصل هذا الضرب تحت الحزام، عن الضغوط الأخيرة التي تُمارس من خلال استخدام الشارع، وخصوصاً الإضراب الذي دعى إليه الإتحاد العمّالي العام. وهو محقّ، لكنه غير بريء من حملة الضغط السياسي على رئيس الجمهورية، وفريقه، من أجل تشكيل الحكومة، على أمل تنازل رئيس التيار الوطني الحرّ عن تصلّبه المطالب بأحد عشر وزيراً. الإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد العمالي العام، يهدف إلى الضغط في سبيل تشكيل الحكومة. العنوان واضح، والهدف أوضح، لا سيما في ضوء قراءة بعض العونيين لقرار الاتحاد، الذي يصفونه بانه خرج من بنات أفكار برّي، لما يربط بين رئيس المجلس ورئيس الاتحاد من علاقة ممتازة، حتى أنهم يصفون بشارة الأسمر بالمحسوب على رئيس المجلس.
غاية الإضراب هي دفع عون إلى اتخاذ قرار حاسم، ينهي مسألة تعطيل تشكيل الحكومة، ومن دون الحصول على ثلث معطّل، مقابل إنقاذ العهد، الذي سيوسم بأنه أخرج التظاهرات العمالية إلى الشوارع، وتخللت سنواته أزمات إقتصادية وإجتماعية. وهذا الضغط أيضاً، لا ينفصل عن مواقف حزب الله الصامتة، الحريصة على استمرار العلاقة مع عون، لكن بشروط معينة، لا يخرج عنها رئيس الجمهورية، كمثل طرح المقايضة بين الثلث المعطّل والتزامات سياسية أخرى، تتعلق في البيان الوزاري، من مسألة السلاح والعقوبات الأميركية وحق الردّ عليها، وغيرها من العناوين.