ليس هناك أغرب من عدم أخذ كلام رئيس أميركا على محمل الجدّ، أو النظر إليه بطريقة طيّارة سريعة وسطحية.. أو الافتراض أنه كلام هوائي يُناسب عوالم "السوشيل ميديا" الافتراضية أكثر من كونه يصدر عن شخص يملك قوة سلطوية ساحقة ويتحكّم بمصائر الملايين من البشر ويقود دولة هي الأقوى في التاريخ!
ولا يُلام مرتكب تلك الآثام! باعتبار أن دونالد ترامب يقدّم بنفسه الحِجَّة والسبب.. يستهوي الإثارة الشكلية والاستعراض اللغوي البرّاني الصادم والنافر ولا تعنيه من قريب ولا من بعيد مستلزمات وشروط حفظ هيبة المقام ولا التأثيرات المباشرة لكل موقف يطلقه علانية. ولا اللياقات المفترضة مبدئياً عند الناس وبينهم عموماً وعند صاحب السلطة العامة خصوصاً. مثلما لا تعنيه، أو لا يعرف كيف تعنيه، تداعيات الأسلوب الذي يعتمده للتبليغ عن سياساته ومواقفه.. يتصرف وكأنه أحادي التفكير ويرأس مجلس إدارة شركة خاصة وليس دولة عظمى.. وهو يملك كل رأسمال هذه الشركة ويحقّ له التصرّف به على هواه وبحسب مزاجه التام!
لكن المفارقة هي أن أسلوب ترامب لم يؤثّر على سياساته. أصابها ببعض الأضرار والحرج لكنه لم يُعدّل في جوهرها ولا في مضمونها. وهذه تبدو ثابتة وتعبّر (بخفّة!) عن توجّه ثقيل. وتعكس بفضائحية تكتيكات الدولة العميقة.. والفارق بينه وبين سلفه السيئ الذكر باراك أوباما هو أنه مُباشر وصريح فيما الثاني ثرثار وخبيث. لكن الجامع بينهما هو أنهما يستأنفان شكلياً سياسة إنكفائية غير مسبوقة تحت وطأة "أكلاف" الحربين اللتين انخرط فيهما جورج بوش الابن في أفغانستان أولاً وفي العراق ثانياً.. في حين أنهما يتصرفان وكأنهما يستدرجان إعادة إحياء الحرب الباردة بدلاً من الإمعان في دفنها! وكأن منظومة التصنيع العسكري في الولايات المتحدة كانت الخاسر الأول من الفوز في الحرب الباردة! والمتضرّر الأبرز من انهيار المعسكر الاشتراكي وضمور مخاطره الكبيرة والاستراتيجية!
تحت هذا السقف (ربما؟) يُقدّم ترامب أداءً أكثر حيوية لمصالح الولايات المتحدة ويعبّر عن ذلك في "التفاصيل" بما يتلاءم مع طبعه وشخصيته و"ايديولوجيته".. ومن كوريا الشمالية إلى إيران إلى سوريا إلى أوروبا نفسها. وتلك الأقانيم الثلاثة التي يستند إليها، أو التي تطبع "قراراته" و"سياساته" تتآلف مع تلك المصالح العليا، مثلما تتآلف مع منطق الأمور القائل في بعض نواحيه بالتصدّي لـ"البلطجة الفرعية"، التي مارسها الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون، أو التي مارسها ويمارسها النظام الإيراني.. والخروج من اللعب في ما يُسمّى الحرب على الإرهاب (مثلما فعل أوباما) بحيث أن هذه الحرب يجب أن تُربح تماماً وليس الاستمرار في "الاستثمار" فيها!
البُعد المالي المتحكّم بشكليات سياسات ترامب يُكمل السياق ولا يقطعه، والاستعراض الكلامي المتسارع عبر "تويتر" يدلّ على شخصيته وأدلجته وهذه في خلاصتها ولاّدة نفور وامتعاض وباعثة نوازع هزل وتسطيح وأحكام قاسية على سلوكيات نافرة.. لكن المضمون (مرّة أخرى) يدلّ على صدور سياسات رئيس أميركا عن خلفيات ممنهجة ومدروسة ومعمّقة ومعتّقة وليس عن هوى وأهواء خاصة وعشوائية وهوجاء!
.. كلامه الصادم عن سوريا "الموت والرمل" بلا أخلاق وعديم الإنسانية، لكنه صحيح في لغة المصالح والمال التي يهواها! وهو بذلك يبقى أفضل بكثير (وأقل ألماً في الواقع) من اللغو الممجوج بمدونة حقوق الإنسان والمثاليات الخادعة التي جعلت خبيثاً مثل أوباما يحظى بـ"جائزة نوبل"!