ليس مستغرَباً أن يرفع «حزب الله» سقفَ المواجهة إلى الحدود الأعلى في عملية تأليف الحكومة. وهو، إذ كان مستعداً في الأشهر الأولى من المفاوضات للقبول بتسوية متوازنة، فإنه اليوم- بالتأكيد- لن يتراجع، وقد يحاول فرض شروط جديدة إذا تمّ حلّ مشكلة الوزير السنّي السادس.
الهدف الذي يسعى إليه «الحزب» هو أن يكرّس مقداراً وافياً من النفوذ في هيكليات السلطة، يكون ضماناً له في مرحلة يُتوقع أن تشهد ضغوطاً على إيران تهدِّد حضورها في سوريا، وقد تؤدي إلى انقطاع الجسر الذي تقيمه حالياً من بغداد إلى دمشق فبيروت.
التحدّي الذي تخوضه إيران اليوم هو: هل تستطيع الاحتفاظ بنفوذها في دمشق، وتالياً في سوريا كلها؟ أم إنّ الصفقات الإقليمية - الدولية الآتية ستؤدّي إلى فكّ ارتباط إيران بنظام الرئيس بشّار الأسد؟
هناك مؤشرات عدّة توحي بأنّ إيران ستحصل في سوريا على جائزة ترضية، كأيّ قوة إقليمية أخرى، لكنها لن تحافظ على النفوذ العسكري والسياسي الحالي، على رغم أنه تقلّص في السنوات الثلاث الأخيرة مع دخول روسيا بكل قواها في اللعبة، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.
يقول خبراء إنّ من السذاجة وصف قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من سوريا بأنه متسرِّع أو أنه يعبِّر عن إرباك أو فشل. كذلك يصعب الاقتناع بأنّ واشنطن «باعت» الأكراد لتركيا وتركت الأسد يتقدَّم ويتسلّم منبج.
في رأي هؤلاء أنّ سلسلة صفقات متكاملة تتقاطع اليوم في سوريا. فالأسد لم يعد يمثّل نفوذاً إيرانياً صافياً كما كان في المرحلة السابقة، بل صار يمثّل أساساً نفوذ موسكو. واللاعب الروسي هو الوسيط الذي يحظى برعاية وتغطية شاملة: أميركية وأوروبية وتركية وإيرانية وإسرائيلية وعربية.
وبناءً على هذا الدور، تمّ تكليف موسكو إخراج مجموعة من التفاهمات حول سوريا: تفاهمات مع تركيا وإسرئيل وإيران حول دور كل منها، تفاهمات بين القوى الثلاث لالتزام كل منها ضوابطه، ورسم حدود للنفوذ بين كل منها ونظام الأسد، وطبعاً ضبط العلاقة بين القوى العربية وهذا النظام. وكل ذلك يتمّ في ظلّ تغطية أميركية كاملة، وضمن مسارٍ محدَّد تسلكه أزماتُ الشرق الأوسط كافة، بدءاً من اليمن.
لذلك، ما زالت إسرائيل تواصل ضرب «فائض القوة» الإيراني في سوريا، بتغطية ضمنية شاملة. وسبق أن رعى الروس إبعاد إيران أكثر من 100 كيلومتر عن الحدود في الجولان. كما أنّ الأسد حصل على تغطية واضحة للسيطرة على منبج. وخلافاً لما يخشاه البعض، ستكون حماية الأكراد مضمونة، ولن تُطلِق تركيا يدها في المنطقة الكردية انتقاماً وتعسّفاً.
فواشنطن لم تقرّر سحبَ قواتها من المنطقة إلّا باتفاق بين ترامب والرئيس التركي رجب طيّب أردوغان يضمن مرحلة ما بعد الانسحاب. وفي أيّ حال، لا يريد ترامب الانسحاب من سوريا على طريقة سلفه باراك أوباما، أي بإخلاء الساحة للقوى الإقليمية، بل هو يريد استمرار السيطرة الأميركية على الملف السوري بـ«الريموت كونترول»، بحيث لا يدفع ثمن الانخراط المباشر في المواجهات على الأرض.
الواضح أنّ القوى الإقليمية الموجودة في سوريا ستحظى بجوائز ترضية: الأتراك سيضمنون عدم ولادة كيان كردي على حدودهم، وسيكون لهم نفوذهم في الشمال السوري. والإسرائيليون سيكون لهم نفوذهم في الجنوب وضمان استقرارهم الكامل، كما كان دائماً في الجولان.
وأما الإيرانيون فيتوقع عدد من الخبراء أن يكون لهم حضورهم الاقتصادي والسياسي في سوريا. وأما الحضور العسكري الذي يدعم اليوم نظام الأسد، من خلال «فيلق القدس» والتنظيمات الرديفة ومنها «حزب الله»، فسينحسر عند التسوية السياسية لأنّ دور إيران في منع إسقاط النظام يكون قد انتهى، وستكون موسكو هي الضمان الثابت لاستقراره.
ويتوقع هؤلاء أن يتمّ إرضاءُ إيران بنفوذ في العراق، لا في سوريا. وفي هذه الحال، بديهي أن ينقطع الجسر الإيراني عبر دمشق إلى بيروت. وفي ذلك إحباط لمشروع دفّع الإيرانيين وحلفاءهم ثمناً غالياً بالمال والرجال، على مدى سنوات، وفي مقدمهم «حزب الله».
لذلك، يعمل الإيرانيون وحلفاؤهم اليوم على مواجهة هذا الاتّجاه، من خلال تحصين أنفسهم في المفاوضات الجارية حول سوريا، وعقد صفقات مع القوى المؤثّرة. فالأسد بات في الجيب الروسي لا الإيراني، سواءٌ كان يفضّل هو نفسه هذا الخيار أم لا. ولا يعني ذلك أنّ الأسد سيتنكّر لعلاقة عضوية تعمّدت بالدم مع الإيرانيين، إلّا أنه مضطر إلى حصر هذه العلاقة ضمن حدود معيّنة، وبموافقة إقليمية ودولية.
وهنا يبدو مُهمّاً النظر بدقّة إلى عودة دمشق الأسد إلى الحضن العربي أو عودة العرب إلى حضنها. فلو لم تكن هناك عملية ضبط للعلاقات بين إيران والأسد لما سارعت القوى الخليجية إلى استعادة الجسور المقطوعة مع دمشق. وهذا ما سيظهر أكثر فأكثر تباعاً. فالأسد الروسي هو الذي يرمّم العرب علاقاتهم به، لا الأسد الإيراني.
وأما في لبنان، فيسعى «حزب الله» إلى تعويض الخسائر المتوقعة في سوريا، من خلال الإمساك بأكبر مقدار من السلطة. ولذلك، هو لا يريد أن يمتلك أيُّ طرف سواه ورقة التحكّم بالحكومة. وفي هذا الشأن، يعمل «الحزب» على انتزاع الثلث المعطِّل من يد رئيس الجمهورية.
وطبعاً هو يريد انتزاع القدرة على التحكّم بالحكومة ومصيرها من يد الرئيس سعد الحريري أيضاً، لكنه يصطدم بالواقع الدستوري. فرئيس الحكومة يستطيع تلقائياً إسقاطها بمجرد الاستقالة.
والمشكلة أنّ «الحزب» لا يريد طرح رئيس آخر للحكومة في هذه المرحلة، لأنّ مجيءَ شخصية أخرى محسوبة مباشرة على «الحزب» سيوقعه في مأزق فقدان التغطية، وسيزيد من عزلة السلطة اللبنانية و»الحزب» معاً، على المستوى الدولي، في ظل ارتفاع حرارة المواجهة بين واشنطن وطهران.
ولكن، ثمّة مَن يرى أنّ «الحزب» قد يجد نفسَه مضطراً إلى الاستغناء عن الغطاء الذي يوفّره الحريري، إذا استنتج أنّ المخاطر أو الخسائر المتوقعة من ترؤسه الحكومة باتت أكبر من المكاسب.
ويتردّد أحياناً أنّ «الحزب» ربما يفكّر جدّياً في تحضير شخصية سنّية يرتاح إليها لتولّي المهمّة. ولكن، هناك صعوبة كبيرة في دفع الحريري إلى الاعتذار، وقد لا يكون هناك مجال حالياً لتكرار نموذج 7 أيار 2008.
ويجري التداول في أنّ أهمية الحكومة العتيدة لا تكمن فقط في أنها ستعيش طوال السنوات الأربع المتبقية من العهد، وأنها ستشارك في اتخاذ قرار في شأن قانون الانتخاب وانتخابات 2022 النيابية، بل تكمن أيضاً في احتمال حصول أزمة انتخابات رئاسية في خريف 2022، على غرار أزمة فراغ العامين ونصف العام بين 2014 و2016، ما يجعل من هذه الحكومة الحاكمَ الفعلي للبلد على مدى فترة قد تطول.
أعمق من ذلك، إنّ انقطاع «الجسر» الإيراني في حلقته السورية سيجعل «حزب الله» في وضعٍ لم يمرّ به منذ تأسيسه في 1982. فما مِن مرّة واجه «الحزب» أزمة مصيرية، حتى خلال الاجتياحات والحروب الإسرائيلية، وحتى عند خروج القوات السورية من لبنان في 2005.
وغالباً ما يخوض «الحزب» معاركه السياسية بتكتيك المعارك العسكرية، أي بحفر الخنادق والتمويه والمناورة وتوجيه الضربات غير المتوقعة. فهل ستسمح له المعطيات بأن ينتصر في معركته المصيرية؟