الدولة المدنية هي فكرة متداولة منذ زمن في لبنان، خصوصاً في الفترة التي سبقت الحرب الأهلية التي أدّت إلى إنهيار مفهوم الدولة في لبنان لصالح حكم الميليشيات.
وإستطاعت هذه الميليشيات بعد إتفاق الطائف أن تتغلغل داخل مؤسسات الدولة وتُهيمن عليها، على قاعدة المحاصصة الطائفية، فاحتكرت تمثيل الطوائف وكرّست الطائفية أكثر في الثقافة السياسية اللبنانية.
ورغم أن الطائف دعا إلى إلغاء الطائفية السياسية، وتشكيل مجلس شيوخ للطوائف بعد إنتخاب أول مجلس نيابي وطني غير طائفي، إلاّ أن فترة ما بعد الحرب وحتى الآن لم يُظهر فيها الساسة اللبنانيون أي جدية حيال هذا الأمر، رغم المطالبات الشكلية بذلك من قبل البعض.
اليوم، أعاد الرئيس نبيه بري طرح فكرة الدولة المدنية، واعتبرها حلاً للأزمة اللبنانية، فهل هو جادّ في طرحه؟
سبق للرئيس بري أن أعاد طرح عدة أفكار متعلّقة بإصلاح وتحديث النظام السياسي في لبنان، من القانون النسبي إلى إلغاء الطائفية السياسية، وهي أفكار ليست خاصة به بالطبع، لكنه من أبرز المسؤولين داخل منظومة الحكم الذين نادوا بها.
لكن طرح الأفكار شيء وتطبيقها شيء آخر، إذ أن تجربة القانون النسبي جعلت كثر يُعيدون حساباتهم في لبنان ويتمسكون بحكم الطائفية السياسية والديمقراطية التوافقية.
والسبب في ذلك يعود إلى أن هذه الأفكار الإصلاحية ورغم إيجابياتها، لا تترافق عادة مع حملة تثقيف لممارستها، فتأتي النتائج مشوّهة.
إقرأ أيضًا: ميليشيات رأس السنة في لبنان ... سلاح متفلت وغياب للوعي
فالنسبي مثلاً كان مطلباً للمعارضة للوصول إلى البرلمان، إلاّ أن النتائج كانت كارثية، فلم يصل منهم إلا نائب واحد من أصل ١٢٨ نائب.
ومرد الأمر أن الشعب وثقافته المعتادة على الإنتخاب الأكثري (العدد) هو نفسه من إنتخب وبنفس الثقافة على أساس قانون نسبي، فتغيّر القانون ولم تتغيّر الثقافة، ما أدّى إلى سيطرة القوى الطائفية الأبرز على مجمل المقاعد النيابية، حتى أن القوى الإسلامية ما زالت تُسيطر على عدد من المقاعد المسيحية، وهذا ما يُخيف البعض.
فالهاجس الأساسي هو من العدد (لم يُوقف البعض العدّ في لبنان)، إذ أن أكثرية السكان في لبنان هم من المسلمين (شيعة ، سنة ، دروز ، علويين) وأي طرح للنسبية الكاملة أو إلغاء للطائفية السياسية، في ظل غياب ثقافة ووعي كامل لدى الفئات العمرية كافة عند اللبنانيين، يعني أمر واحد وهو هيمنة إسلامية على الدولة اللبنانية تحت ذريعة طروحات إصلاحية.
فهذا الحزب المسلم (سني، شيعي) سيستفيد من طروحات إلغاء الطائفية السياسية ليحكم، كون الظروف ستُلائمه أكثر (الديمغرافية) على قاعدة الديمقراطية الأكثرية بعد إلغاء الديمقراطية التوافقية، وفي ظل أيضاً ثقافته كمسلم وتمسكه بهويته الدينية على حساب مدنية الدولة.
ضمن هذا السياق، تأتي الدولة المدنية لتكون مشكلة لا حلاً، وفي لحظة تفوق إسلامي - شيعي بالأخص - في لبنان، وتُفتح معها سجالات النصوص والنفوس.
فهذه النفوس يجب أن تكون مستعدة لتقبّل فكرة قيام الدولة المدنية وأن لا تعتبرها عامل مساهم في تكريس هيمنة طائفة على حساب أخرى، وبالتالي يجب العمل بشكلٍ جادّ على ثقافة ووعي ونفوس اللبنانيين .
وإن كان من السهل المطالبة بالدولة المدنية، لكن تطبيقها والعمل على ذلك تُظهر مدى الجدية من عدمها.
إقرأ أيضًا: هل يُعرقل جدال دعوة سوريا إلى قمة بيروت الإقتصادية تشكيل الحكومة أيضًا؟
فالدولة المدنية هي الدولة التي تفصل بين الدين والسياسة، ولا يحكمها عسكر أو رجال دين بل مدنيين، ضمن نظام مدني يُعامل الجميع على أساس أنهم مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات بغضّ النظر عن دينهم وعرقهم ولونهم وجنسهم (المواطنة).
وفي الدولة المدنية، هناك نظام مدني يحكم على أساس الدستور، والقانون هو من يُنظّم علاقات المواطنين فيما بينهم البعض، لا الشريعة أو باقي النصوص الدينية، وفيها يُعامل الجميع بسواسية وبنفس الحقوق، الديني والملحد والمثلي وغيرهم. وهي تكفل للجميع ممارسة طقوسهم الدينية والإجتماعية والثقافية، وتصون مفهوم الحرية وتحمي الحريات على إختلافها ما دامت تحت سقف القانون.
ولا يمكن في الدولة المدنية أن تُفرض أجندة دينية أو أيديولوجيا دينية، بل الحكم المدني هو السائد، وتعمل على تكريس الثقافة المدنية ليحكم النظام المدني بأريحيّة.
أما النقطة الأهم، فهي أن الدولة المدنية لا تُعامل المواطنين على أنهم جماعات بل أفراد متساويين بالحقوق والواجبات.
هذه الأفكار لو تكوّنت في نفوس وعقول اللبنانيين وأصبحت ثقافة مُقنعة لهم وسلّموا بها، فهي تعني أن الدولة المدنية ستحلّ المشكلة اللبنانية نهائياً، أما غير ذلك عبر البدء بالدخول في الإستثناءات والترويج لفكرة "دولة مدنية عالطريقة اللبنانية" فهو خداع وترقيع للمشكلة.
لذلك على القوى السياسية التي بدأت الترويج لفكرة الدولة المدنية، أن تُعدّ ورشات عمل تثقيفية وفتح حلقات نقاش وجدال تعمل على تكوين وعي وأفكار عنها لدى المنتسبين والمؤيدين، ليكونوا جاهزين لاحقاً للحكم المدني في ظل الدولة المدنية، من دون هواجس العدد أو نوايا مسبقة وطمع بالهيمنة على الآخر.
وفي ظل تكوّن هذه الثقافة بالذات، تُصبح الدولة المدنية حلاً نهائياً للأزمة اللبنانية وخلاصاً.