لا تقاس أزمات لبنان بالعجز في الميزان التجاري أو العجز في ميزان المدفوعات. هذه قائمة وتتفاقم، والحديث لا يتوقف عن أزمات اقتصادية ومالية ونقدية قد تواجهها البلاد.
الأخطر هو العجز في ميزان الأمل. كانت الهجرة خيار الأجيال الشابة من معمل الكفاءات الذي اسمه لبنان إلى حيث الفرص المفتوحة في كل العالم. اليوم صارت الهجرة خيار قادة البلاد. لم يتردد أحد كبار المسؤولين، وقد زرته متمنياً سنة أفضل، في القول ”لو فيه الواحد يضب غراضو ويفل“، أي يحزم حقائبه ويمضي. الزعيم الدرزي وليد جنبلاط يشارك متابعيه على منصة «تويتر» صور رحلة إلى الخارج، يوقعها بتلميحات لاذعة. ملامحه تقول كم يشتهي أن تطول الرحلة. أن يتقاعد كسائح عادي تتدلى كاميرا من عنقه، تنتمي إلى زمن ما قبل الهواتف الذكية وكاميراتها المبهرة. لا شيء في لبنان يثير الفضول هذه الأيام الا قدرة الطبقة السياسية على مراكمة أسباب الانهيار، بسرعة وإصرار ومثابرة. البلاد معلقة على سؤال تشكيل الحكومة منذ سبعة أشهر تقريباً. أعرف وزيراً لاحقاً (وزير لاحق، على وزن وزير سابق) أتى من مغتربه مرتين حين كانت الحكومة قيد الولادة، ثم عاد وزيراً مع وقف التنفيذ؛ لأن تفصيلاً شيطانياً استفاق في اللحظات الأخيرة، وأعاد الأمور إلى المربع الأول. كم ترانا ألفنا هذا المربع إلى حدود الرعب من مغادرته. كأنها جمهورية المربع الأول، بأضلاعه المقدسة.
كان بعض السياسة في لبنان وليس بعض الحرب فقط، هو سياسة الآخرين على أرض لبنان. في خمسينات وستينات القرن الماضي كان لبنان مسرحاً جزئياً لـ”الحرب العربية الباردة“، بحسب عبارة العالم السياسي الأميركي مالكولم كير، بين الشعبويين السوفياتيي الهوى والملكيات والنخب المحافظة المتحالفة مع المعسكر الغربي
في السبعينات والثمانينات، تصدر لبنان واجهة سياسات الآخرين وحروبهم. شكل موت عبد الناصر مقروناً بجنون أسعار النفط، السبب الرئيسي لتراجع سياسات الصراع الآيديولوجي العابر للحدود، ليحل محله انغلاق الأنظمة على دواخلها ورغبتها في تثبيت مداميكها والاستفادة من الثراء الجديد. كان لبنان بديل الجميع، وساحتهم المفضلة لتصفية الحسابات. ازدهر إعلاماً وسياسة، وقيادات وشخصيات وميليشيات ومعسكرات. صار لبنان مسرحاً كمسارح ”آرب غوت تالنت“، بحدة التنافس بين المشاركين، ولجان التحكيم المزروعة هنا وهناك، لانتقاء المواهب الجديدة. المواهب الفلسطينية والعراقية والليبية والسورية واليمنية انطلقت من لبنان. ثم أطلت إيران بنجومها الصاعدين والمختلفين مطلع الثمانينات، فيما قدمت السعودية في مطلع التسعينات موهبة استثنائية اسمها رفيق الحريري.
نمت في رحم هذا الحراك أحلام لبنانية لا حصر لها. وكانت كلما كبرت الأحلام كبرت معها رقعة الدمار التي تحدثها، تماماً كما يكون الحفر العميق جداً مقدمة لبناء العمارات الشاهقة. حفر ملأها اللبنانيون بفوائض الأمل والأحلام القاتلة.
غريب كيف أن السلم الأهلي البارد يستنزف أعصاب اللبنانيين اليوم أكثر من زمن الحروب الساخنة.
ومع ضيق الأمل، أو بسببه ربما، ضاقت السياسة. لم تعد السياسة اللبنانية تثير ما كانت تثيره. ولم يعد يملك السياسي اللبناني ما يخرجه من كيسه لإدهاش الحضور. جسد السياسة اللبنانية شاخ، تكلست مفاصله. فقد المرونة المدهشة التي تحلى بها يوماً.
ليس أدل على ذلك من صدور السياسة اليوم، بمعناها الواسع، عن نجوم القوة الناعمة، وليس عن أهلها المحترفين.
تجاوز مثلاً كلام ماجدة الرومي في حفل افتتاح مهرجان «شتاء طنطورة»، في مدينة العلا السياحية بالسعودية، عن العلاقات اللبنانية السعودية كل ما يمكن أن يصدر عن أحزاب أو شخصيات قريبة من المملكة. جاء كلامها حاراً صادقاً صاعقاً في مواجهة كل محاولات تخريب العلاقات اللبنانية السعودية. قالت ماجدة: «أفتخر بالغناء في هذا البلد الحبيب الذي نقدره ونحترم شعبه كثيراً. في قلبي كلام كثير، لا أعلم من أين أبدأ. هذه الأرض، التي قبل أن تخص قلوبنا، نحن نحسبها منذ زمن على ضمائرنا، إذ أصبح لنا فيها بيوت وأهل، تماماً كما في بلدنا“.
كلمات بسيطة أطاحت عمارات من التحريض على المملكة والطعن في سمعتها وتاريخها وحاضرها. الأهم كلام وصل للناس. الناس أنفسهم الذين صرخ باسمهم واسم خوفهم الفنان راغب علامة بأغنية ”طار البلد“. لم تثر كل الاشتباكات السياسية مع الطبقة السياسية ما اثارته أغنية راغب. الأغنية خاطبت مخاوف الناس الحقيقية وشعورهم الأكيد أن البلد ”آيل للطيران“. حكى باسمهم خارج رطانة الخطاب السياسي ولغة الأرقام والإحصاءات وسياسات الهويات المقيتة والشعور المرضي لممثلي المجموعات اللبنانية الذين شرط حياة كل منهم موت الآخرين كلهم جميعاً.
وفي هذا السياق يأتي كلام الفنانة إليسا التي عبرت عن مشاعر أغلبية لبنانية تجاه وزير نجح في أن يكون السياسي الأكثر مقتاً في لبنان، حتى من داخل بيته السياسي. النقد لهذا الوزير في كفة وما قالته إليسا في كفة ثانية. هي أيضاً وصلت للناس بعفوية وصدق وبساطة.
ليس بسيطاً أن التصريحات السياسية الأهم تصدر عن ثلاثة فنانين وليس عن سياسيين باتوا يعانون معاناة شديدة في جذب الانتباه إلى مقابلاتهم التلفزيونية. هل هو موت السياسة أم موت السياسيين؟