في السنوات العشرين الأخيرة، عرفنا لوائل حلاق عشرات الكتب والدراسات في تاريخ الفقه الإسلامي وأصوله وأنظمته، يمكن تقسيمها منهجياً إلى ثلاثة أقسام: أولها المراجعة النقدية لدراسات الفقه الإسلامي الاستشراقية، وبخاصةٍ مقاربات غولدزيهر وجوزيف شاخت التي كانت مقولاتها سائدةً في أوساط الدارسين الغربيين المُحدَثين. وثانيها نقد الأُطروحات السائدة حول الفقه وتاريخه ومذاهبه في أوساط الدارسين النهضويين والإصلاحيين المسلمين، وبعض المقولات والمفاهيم التي تعود إلى زمن ما قبل الحداثة. والقسم الثالث هو القراءة الدقيقة لمنهج الفقه ونظامه ورؤاه للقضايا والمشكلات، وطبائع الترابط بين الأصول والقواعد الفقهية من جهة، وما يُعرفُ بفقه الفروع من جهةٍ ثانية. وقد بلغت دراساته الذروة بهذه الشأن في كتابه «الشريعة» الصادر عام 2009، والذي تُرجم مؤخراً إلى العربية، وقد كتبت عنه لـ«الاتحاد». واليوم أكتب عن كتابه الأخير (Restating Orientalism) بمعنى المراجعة النقدية أو بلغة القدماء «تصفُّح الاستشراق». ونحن نعرفُ منذ ثمانينيات القرن الماضي رأيه في الدراسات الاستشراقية، وبخاصةٍ نقده العنيف لأُطروحات المستشرق جوزف شاخت في التكون المبكّر للفقه الإسلامي. لكنه في الكتاب الأخير ذو هدفٍ مزدوج: مراجعة كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد في قراءةٍ نقدية جذرية، ونقض الاستشرق بل والعلم الغربي في الدينيات والإنسانيات والدولة الحديثة عموماً. عنوان الترجمة العربية للكتاب «قصور الاستشراق»، وهو غير دقيق، لأنّ الاستشراق بحسب رأي حلاق الأخير ليس قاصراً ولا يعاني من قصور في فهم الإسلام فقط، بل هو مثل سائر العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية ليس علماً على الإطلاق!
حلاّق يعتبر أنّ مقاربة سعيد ليست صحيحةً موضوعياً ولا منهجياً، فليس عنده تحديد معقول للاستشراق، ولا عنده معرفة حقيقية بما كتبه المستشرقون وأشباههم، بل استند إلى ميشال فوكو ومقولته بشأن المعرفة والسلطة (وحلاّق يذهب إلى أنّ سعيد أساء فهم أُطروحة فوكو أيضاً)، كما يعاني من خلْطٍ في المفاهيم والمنهجيات. سعيد يساري ليبرالي، يأخذ على المستشرقين أنهم يطبّقون معايير مزدوجة، لذلك خانوا العقلانية التاريخانية، كما تحيّزوا ضدّ الإسلام.. والشاهدُ الرئيسُ عند سعيد على ذلك كلّه: برنارد لويس، المستشرق الصهيوني المشهور.
حلاّق ذو النقد الجذري للغرب كلِّه وعلومه، كما فعل في كتابه «الدولة المستحيلة» الصادر عام 2013، يصل إلى حدّ اعتبار سعيد واهماً جداً في اعتقاده بأنّ العقلانية الليبرالية المَخونة يمكن الاستناد إليها في التصحيح والتعديل، بمعنى أنّ الغرب النقدي يمكن أن يصحّح أو يُزيل الغرب الإمبريالي أو المتحيّز ضد الشرق والإسلام وإنسانية الإنسان. فالفساد اللاإنساني قد وصل إلى دماغ تلك الحضارة وتلافيفها. وقد اتخذ الدارس الكبير لتلك الحضارة، من الاستشراق نموذجاً للسوء الذي بلغته، وهي التي صنعت نظام العالم الحديث والمعاصر. فحتى الذين امتلكوا نظرةً إيجابيةً في دراساتهم عن الإسلام، فامتدحوا روحانياته مَثَلاً إنما أساؤوا الفهم، ودفعهم لهذا الامتداح سوء ظنهم بالنظام الحضاري الذي أنتجَ هذا العالَمَ كله من الأخطاء والشعوذات باسم العلم وباسم الإنسانية وباسم التقدم. هؤلاء قلة تبحث عن دينٍ آخَر، أو عن ثقافةٍ وحضارةٍ أُخرى.
منذ التسعينيات اعتبرتُ في دراساتي (وأنا مختصٌّ بالاستشراق الألماني) أنه في لحظةٍ من لحظات التأزم بين الثقافات والحضارات، يقوم دارسون معارضون أو جذريون بكشْف حسابٍ بين ثقافتين أو حضارتين بينهما تأزم متصاعد. وما قام به إدوارد سعيد يشكّل نوعاً من كشف الحساب للعلائق المعرفية والسياسية المتأزمة بين الغرب والإسلام، وفي حالتنا، من خلال اعتبار الاستشراق نموذجاً للسلطة الغاشمة باسم العلم في رؤية ثقافة أو حضارةٍ أُخرى. وقد عمَّم سعيد في كتابه الآخر: «الثقافة والإمبريالية» هذا الأمر على علائق الغرب بالعالَم غير الغربي من خلال الانثروبولوجيا والعلوم الفلسفية والاجتماعية الأُخرى.
هناك صعودٌ في نزعة نقد الخطاب الاستعماري لدى كثيرٍ من الدارسين البارزين الغربيين والعرب والمسلمين والهنود. لكنه هذه المرة أصبح نقضاً شاملاً للغرب باعتباره غرباً ضد الحضارات والثقافات الأُخرى جميعاً.