لماذا يعيش العربي خارج المكان، وما هي اسباب هذه القطيعة والاغتراب والاستلاب للهوية العربية؟؟؟
إن خطأ بعض الباحثين والمثقفين العرب انهم كانوا اداةً لمصيدة الغرب وتحديداً المشروع الاستعماري في المنطقة من خلال التأثُر في بنية الغرب الذهنية في التعاطي مع قضايا الشرق الاوسط العربي وبخاصة الاسلام، بفعل روح الحداثة الغربية الداعية للتحرر وحقوق الانسان والديمقراطية في حين ان واقعها ليس سوى استخدام علم الاستشراق والانتروبولوجيا وتقنياته، لدراسات المشرق دراسة منحازة فتنوية لفرض هينمتها واستعمارها على الشعوب العربية والاسلامية بفعل سلطة المعرفة من خلال نُخبها وباحثيها واستراتجيها امثال برنارد لويس ، جولدزيهر، ص م. زويمر، غ.فون. غرونباوم وأ.ج. فينسينك ود.ب. ماكدونالد وغيرهم من المستشرقين الذين دسّوا السموم في نقلهم ومشاهداتهم عن الشرق والمسلمين والاسلام في رحلاتهم الاستكشافية وحفرياتهم وترجماتهم المغلوطة المبسطة عن التراث والعلوم الاسلامية والمشرق العربي-الاسلامي. مما عزز ثقافة الاحتراب مع الذات وشيطنتها لتصبح اسيرة تناقضات واحكام مسبقة مشبوهة ومشوّهة. اكان اتجاه نزعات عاطفية العرب ام اتجاه التطرف وعنف الاسلام دون شرح حقيقة الواقع العربي بتجرد وموضوعية. إن العرب ليسوا متخلفون بقدر ما هو مطلوب العودة الى الذات وفض اشتباك القطيعة مع حركة التاريخ والتراث وعلم الكلام واللغة العربية الذي يسطو عليها طابع الاستغلال والتشويه والتحريف. إن المثقف العربي يجب ان يكون واقيا وحذرا من كل اشكال الاستلاب والتبعية ومنفتحاً على الثقافات الانسانية . وهذا طبعاً ليس في استنساخ حضارة الغرب القائمة على اساس النهب والابادة والقرصنة وتخريب الشعوب. إن حضارة العرب متجذرة في تاريخ وعمق وامتداد المشرق وهنا، المغالطة التاريخية والفكرية عند العرب. لذلك، من المفترض البحث هنا في حفريات اشكالية: لماذا يعيش العربي خارج المكان، وما هي اسباب هذه القطيعة والاغتراب والاستلاب للهوية العربية؟؟؟
إن هزيمة العرب الاولى، انهم صدقوا كذبة بعض المستشرقين وتعاطوا معها على اساسِ حقيقة. فما نشهده اليوم من صراعات ونزاعات دموية بين هذه الشعوب المختلطة والمتنوعة الاعراق والاجناس والقوميات والاثنيات قائم على اساس شعب محتل معرض للاحتلال والتصفية والابادة والتهويد بفعل الاحتكام الى هذه الاتهامات المشّوهة والمغلوطة، التي قام بتشريحها الباحث ادوارد سعيد في مؤلفين له عن "الاستشراق" و"بلا مكان"، ان الشرق له امتداد حضاري متجذر بالارض استفاد منه الغرب وأخذ عنه واستفاد من علومه وحضارته وتقدم وتطور ونحن تخلفنا. وهذا ليس بسبب ننا عاطفيين او روحانيين بل لاسباب عميقة قائمة على اساس انسداد تاريخي وحضاري تعزز بفعل الكراهية والاحتقان المتمثل في ثقافة عدم النقد للذات العربية وتراكماتها الذاتية. حيث يذهب علي شيريعتي في كتابه، " عودة الى الذات" و ثالوث العرفان والمساواة والحرية، انه ينبغي على المسلمين تحديداً معرفة أن العلم المتنامي، من دون التسليم بالله، شكّل مجتمعاً متحضراً لا انساناً متحضراً، ويأسف ان يكون العرفان في الشرق تداخل مع الدين الذي اصبح جزءاً من الاطار السياسي الفاسد الحاكم، فتحول العرفان والدين معاً الى خرافات تخدم الحكام . مما ادى الى بروز أفكار تعادي الدين وتنشد الحرية والعقل، فأصبح تحرر الانسان يساوي ترك الدين. وهنا تكمن الاشكالية العربية التي تملي العودة الى الذات اي عودة للاخر في لباس الذات التي عبر عنها علي شريعتي في كتابه :"عودة الى الذات"، فهو يأتي لذاته معبأ بالافكار الكبرى التي استقاها من كليّة مجد الوجودية وسارتر والكوايج دي فرانس وفرانز فانون وإيما سيزار، لكن على الجميع أن يفترقوا ويعود كل واحد منهم الى منزله، الى ذاته وهويته الثقافية. فالذات تمثل تفرداً عميقا للتاريخ وبالتالي، لا يوجد مجتمع بل مجتمعات ولا توجد ثقافة بل ثقافات. إن هذا السرد هو بمثابة شاهد على ذاتية المثقف والمفكر وهو يحمل حقيبته عائداً الى تراثه وثقافته، معتزاً بها ومتمسكاً بهويته وتاريخه وتاريخ أجداده الذي امتزج بتراب الارض وبرموز التقدم والنضال والعقل في المحمول الثقافي للمجتمع فلا ينفصل عنه ويقع في فخّ التغريب، فيصبح كومبارس في مسرحية عبثية تقودها البرجوازية في صورتها الثقافية، مثل استرجون فلاديمير في مسرحية " إنتظار غودو" العبثية. فالمطلوب اذا، أن ننتطلق من عمقنا الثقافي في مسيرة النظال والتحرر ولكن، يقع علي شريعتي في فخّ التلفيق الذي يدعي انه يرغب في مفارقته وهو في طريقه للذات ، فيرى في أبو ذّر الغفاري نموذجاً للاشتراكية ورفض جبروت الاقطاع وفي سلمان الفارسي طريق الانسانية والانقلاب على فكرة الهوية الضيقة ، وفي الحسين بن علي نموذج الثورة على الديكتاتورية الشمولية وفي جندب بن جنادة قائداً ثورياً بعد أن كان قاطع طريق و(هلم جرّ). إن عودة الذات لذاتها هي عودة للاخر في لباس الذات من أجل تلفيق الاخر مع ثوب الذات لكي يخلق المشروعية للاستنارة من أجل عباءة الذات. مما يعني اننا لسنا ضد الافكار التقدمية والحديثة بل ضد الافكار الرجعية التي تقبل الامم، لان هذه الافكار التقدمية التي نادوا بها كل من أبراهام لينكولن وجون لوك التي هي متمثلة في ثورة الحسين على مؤسسةِ السلطةِ، لا تتحق امانيها الا وفق تحقيق وجود الاخر في مخيّلة الذات ووجود الذات على حقيقتها دون توهم الاخر فيها، من ثم التواصل العقلي الفكري بينهما. إن تفهم هذه الامة يأتي في سياق تفهم واحترام السيرورة الفلسفية والعقلية الذي أنتج هذه المذاهب الانسانية التي حررت الانسان من جبروت الناسوت واللاهوت وهذا مرهون بمفتاح الديمقراطية الذي عبر عنها جوج طرابيشي في هرطقاته: "أنّ التحرر من رمال التاريخ المكمون في ذواتنا الطويل الذي استوطن فينا بحكم طريق التلفيق والتلبيس" بهدف الوعي بالذات وبالاخرالذي هو امتداد حضاري لذاتنا.
كيف ذلك؟ إن العرب والمسلمين ليسوا في دار حرب بفعل انهم اعداء الحداثة والتطور بل في حالة معادات مع الغرب على اساس حضاري وهو ان الغرب قائم على فكرة الخداع والنفاق المتمثلة في هذه السلطة المعرفية التي تحدث عنها الباحث البنويوي، ميشال فوكو، أن الانسان لكي يتحرر عليه التحرر ذاتيا كفرد وثم نقل ثقافة التحرر الفردي الى المجتمعات حتى يتحرر المجتع. اذاً ، العلاقة التحررية قائمة على اساس مبدأ تحرر الفرد وهذا ما حاول انتقاده ادوارد سعيد في نقده للمثقف وعلاقته بالسلطة والمجتمع في سياق نقد مفهوم الوهم الثقافي وارتباطه بمفهوم النخبة اضافة الى العامل الثاني، وهو الوهم الايديولوجي ومفهومه للحرية وثالثاً، هو الوهم الاناسي وارتباطه بمسألة الهوية ورابعاً، هو الوهم الماورائي وارتباته بمفهوم المطابقة وخامساً، هو الوهم الحداثي وعلاقته بمفهوم التنوير. كلها اوهامٌ تستقرُ بالعقل، والتي جاءت نتيجة الركون والسكون المعرفي في كهف الاقرار المعرفي التي حددت درجة إرتقاء الانسان في سلم المعرفة وفي سياق ربطهه مع السلطة وهذا يتم تحديده بفعل الالتزام الذي ناشد به انطونيو غرامشي، أن المثقف هو ذلك الملتزم المدافع عن قضاياه بتمسكِه بمواقفه والضمير البشري ، فمثلا ادوار سعيد يعد من المفكرين العُظامِ الذين استطاعوا بفضل ثباتهم للقضية الفلسطينية والتزامهم لمبادئ الحرية والديمقراطية والحق في تقرير المصير، ان يطرد اقلاماً من المفكرين المستشرقين الذين دسوّا السموم الملفقة والمشوّهة عن الحضارة العربية وتاريخ العرب وهذا المقصود بالالتزام . بالختام، إن انسداد التاريخ العربي –الاسلامي يأتي نتيجة هذه القطيعة النقدية الحقيقية للذات العربية –الاسلامية التي لم تبدأ بعد من حيث نقد الذات نقداً موضوعياً وعلمياً. فمثلا سؤالاً بسيطاً لماذا لم تتحرر فلسطين بعد سبعون عاماً من النضال والتضحية؟ لماذا لبنان لم يبني دولة. هذا واقع لابد من عودة ذاتية له وتفنيده وتشريحه من خلال المصالحة مع الذات ونقد اسباب هذه القطيعة وخلفياتها والمناخ التاريخي المتراكم لها الذي كرّس هذا الانسداد والانحطاط.
(تابع) أورنيلا سكر*: صحافية وباحثة لبنانية متخصصة في الصراع العربي-الاسرائيلي وتاريخ العلاقات اليهودية –الاسلامية ونقد العقل العربي –الاسلامي من منظور علم الاستشراق من أجل تعزيز الحوار والسلام بين الاديان والثقافات والحضارات.