تكر السنوات في سياق دورات وتحولات مرتبطة بحركة الأجرام السماوية في الفضاء وتأثيرها على كوكبنا. وعشية السنة التاسعة من العقد الثاني في الألفية الثالثة يتواصل الاحتدام في دورة الزمن الصعب عالمياً وإقليمياً. ما بين سنة 2018 التي شهدت تصعيداً للتوتر بين الكبار وتنافسية محمومة ضمن عولمة تتعرض للتصدع وبين سنة 2019 التي يمكن أن تحمل بين طياتها المزيد من عوامل التجاذب والحروب التجارية وسباق التسلح، لا تبدو الآفاق أقل تشنّجاً وأقرب للتسويات.
وعلى الصعيد العربي تذكرنا العشرية الحالية بتحولات هامة إبان مثيلتها من القرن الماضي (1914 – 1920) إذ مع تزامن الحرب العالمية الأولى وأفول الإمبراطورية العثمانية أتت اتفاقية سايكس – بيكو في 1916 ووعد وبلفور في 1917 ليغيّرا وجه المنطقة. ومن عام إلى آخر يبدو العالم العربي “الرجل المريض” لهذه المرحلة وإمكانيات الشفاء والاستنهاض أقل بكثير من احتمالات المزيد من الإنهاك وتقاسم النفوذ على حسابه.
مشهدية آخر العام 2018 لافتة بتناقضاتها المثيرة واللوحة عند الكبار تبرهن عن تخبّط دولي يصعب إحاطة تفاعلاته: سيد البيت الأبيض دونالد ترامب الذي ركز على نجاحه الاقتصادي من أجل “أميركا أولاً” فإذ ببورصة نيويورك في الأيام الأخيرة تمر بأسوأ أحوالها وتذكره أن للحكم فنونا وشجونا وتوازنات.
في المقابل يبدو “القيصر الجديد” في وضع أفضل يختتم عامه مع نجاحات جديدة من بحر آزوف إلى ضفاف المتوسط والفرات لكن شعبيته في الداخل أخذت تتراجع لأن الناس لن تنام مستريحة على وسادة الأمجاد المستعادة من دون التحقق الذاتي وبعض البحبوحة. للوهلة الأولى، وحده زعيم الصين شي جين بينغ يظهر محصناً بإنجازاته وحزبه القائد وتوسع بلاده المدروس بالرغم من بعض الخلل الداخلي.
أما في أوروبا فحدث ولا حرج: إيمانويل ماكرون الذي بدأ مساره “البونابرتي” انطلاقا من جادة الشانزيليزيه في مايو 2017 سرعان ما أتى تحرك “السترات الصفراء” ليحوّل هذه الجادة الشهيرة في ديسمبر 2018 إلى موقع يضرب هيبة سيد الاليزيه ويهدد بتعطيل طموحه. أما “الإمبراطورة” أنجيلا ميركل فتستعد للرحيل وبلادها لا تزال تفتش عن دور ولا تخرج من عباءة ماض ثقيل الوطأة ومن جهتها تتهيأ المملكة المتحدة للطلاق مع الاتحاد الأوروبي (باتفاق أو من دون اتفاق) من دون حل إشكاليات موقعها والمخاطر بالنسبة لتموضعها ووحدتها.
وباقي الدول الأساسية في أوروبا ليست في وضع أفضل مع دول اخترقتها وسيطرت عليها حركات شعبوية مثل إيطاليا وهنغاريا، أو بلدان حكوماتها هشّة مثل بلجيكا وإسبانيا. وفي سياق صعود الشعبوية وطغيان هواجس الهجرة واللجوء والأزمة الاجتماعية يحين موعد الانتخابات البرلمانية للاتحاد الأوروبي، أواخر مايو 2019، التي ستشكل مقياساً لأحجام القوى السياسية والاختيار بين إمكانية إطلاق ديناميكية مشروع أوروبي جديد يتيح لأوروبا مكاناً في توازنات عالمية قيد التبلور، وبين انتكاسة تعيد أوروبا لثلاثينات القرن الماضي مع كل ما يحمله صعود القوميات والهويات من مخاطر على ديمومة الاتحاد ودوره.
ولا يعيش باقي العالم أحوالاً أفضل مع المشهد السياسي الجديد في البرازيل إلى ممارسات “الثوار السلطويين” نيكولاس مادورو في فنزويلا ودانيال أورتيغا في نيكاراغوا. وكما جنوب أميركا لا تبدو الكثير من دول القارة السمراء في وضع متأزم من الكونغو الديمقراطية إلى الكاميرون وأفريقيا الوسطى والسودان. وحدها إثيوبيا تتميز وتخرج بأفضل وضع بعد التغيير السياسي في 2018 والمشهد الجديد المرتسم في البحر الأحمر بينها وبين إريتريا وكذلك تحسن علاقاتها مع مصر.
وفي آسيا البعيدة واستمرار محنة ميانمار، انخفض التوتر في شبه الجزيرة الكورية بعد قمة سنغافورة والانفتاح بين الكوريتين، لكن طريق الحل النهائي لا تزال مزروعة بالألغام والحذر تبعاً لتوازنات دقيقة بين واشنطن وبكين وموسكو وطوكيو (كما بين بيونغ يانغ وسول) لأنه لا يمكن فصل اختبار القوة هناك عن باقي التجاذبات في بحر الصين الجنوبي وتايوان أو بين روسيا واليابان في مركز صراعات تقريرية لمستقبل النظام الدولي الجديد الذي يحاول رسمه الثلاثة الكبار ترامب وبوتين وشي جين بينغ كلّ على طريقته.
في خضم المعطى الاستراتيجي العالمي الجديد المتخبّط والقائم على تقلّب التحالفات، ومحدودية التقارب، وتطور المساومات والتنافس القائم على المصالح بين الفاعلين الأساسيين، يعتبر الشرق الأوسط والخليج العربي وغرب آسيا من مراكز الصراع المركزية التي سينجم ربما عن تمخّضها انبثاق توازنات إقليمية أو منظومة عالمية جديدة. ومما لا شك فيه أن الصعود الروسي في المشرق وتداعيات سياسة ترامب وآثار العقوبات على إيران وما يجري من السودان إلى غزة وسوريا ولبنان واليمن وجواره تشكّل عوامل مترابطة ترسم صورة غير زاهية عن العام 2019 مع عدم استبعاد المزيد من المواجهات الداخلية والإقليمية والحروب بالوكالة.
زيادة على استمرار الحروب الليبية والوضع المتأرجح في تونس، ستكون الجزائر في صدارة البلدان التي تستحق المتابعة عن كثب خلال العام 2019. فهي تستعد لإجراء انتخابات رئاسية، لكنها تبدو عالقة وسط مرحلة انتقالية مستمرة. وتزيد من حدّتها أزمة اقتصادية عميقة وغضب اجتماعي متعاظم وانقطاع للرابط بين الشعب والقيادة.
في وضع تستمر فيه الساحات العربية ميادين لتصفية شتّى الحسابات، تتصوّر دول مسكونة بهاجس أمنها (إسرائيل) أو على وقع ذاكرتها الإمبراطورية (تركيا وإيران) أن الفرصة مثالية لملء فراغ التردد الأميركي أو اقتسام الوضع العربي وإرسال الجيوش والميليشيات إلى أراضي الآخرين، بينما ينهار الحلم الكردي من دون أن يعني ذلك طيّ مشروع إعادة تركيب الشرق الأوسط الذي بدأ في 2011 واستمر فصولاً حتى 2018 ولن ينتهي على الأرجح في 2019.
في مختلف أنحاء العالم العربي، يحمل العام المقبل كمّاً كبيراً من المخاطر المحدقة التي تهدّد بتجدد النزاعات. لكن استمرار التفكك العربي لا يعني بأنه قدر محتوم سيقود إلى الانهيار أو الانحطاط، إذ تبرز ديناميكيات مضادة تتطلب المزيد من الوقت ليبدأ العدّ العكسي للمسار التراجعي.