شكّل الحسن بن هانئ (تـ. 814م) المكنّى بأبي نواس (لوجود ذؤابة وسط رأسه عندما كان فتى، تنوس عندما كان يجري، حسبما يذكر على لسانه)، أمثولة فريدة وعلامة فارقة، ويكاد يكون وحده ثورة هزليّة على الموروث الجاهليّ والتقاليد الشعريّة والأعراف الاجتماعيّة، واكتسب، رغم ما يُنسب إليه من تهتّكٍ وجرأة، شهرة كاد يغمر بها شعراءَ عصره، حـتّى "لم يكن شاعر في عصره إلّا وهو يحسده، لميل الناس إليه، وشهوتهم لمعاشرته، وبُعدِ صيته، وظُرف لسانه"، كما يقول ابن منظور.
وصارت تنسب إليه القصائد التي تحمل نظرة مغايرة للسائد، فنستطيع أن نقول إن أبا نواس ليس شاعراً واحداً فحسب، بل هو جميع أولئك الشعراء الذين قالوا شعراً مخالفاً للسائد في الشعر والدين والعلاقات الاجتماعية ونسبوها له، خشية الذم والعقاب، بينما حماه قربه من الخليفة هارون الرشيد وابنه الأمين لاحقاً، هذا الشعر المدوّي المجاهر بمخالفته الأعراف أدّى بصاحبه إلى إسقاطه من كتاب الأغاني لكنّه لم يسقطه من ذاكرة الشعر المتمرّد وذاكرة الشعراء الهاربين من عَسْف التقليد.
وأنقذ ابن منظور صاحب لسان العرب أخباره من الامِّحاء وعلّق على إسقاطه من الأغاني قائلاً "إذا أغفل أبو الفرج ذكرَ أبي نُواس من كتبه فمَن ذكر!" علاوة على أنّ الكثير من أشعاره "المحرّمة" أُسقِطت عمداً من عديد نُسخ ديوانه. كما تجدر الإشارة إلى اهتمام المستشرق فاغنر Ewald Wagner بجمع ديوان أبي نواس في خمسة أجزاء مما ساهم في حفظ أشعاره.
الخمريّات: طقوس المعاقرة وآداب المنادمة
لم يكن أبو نواس أوّل من وصف الخمر أو عُرف بها في الشعر، إنّما سبقه إلى ذلك شعراء كُثُر، أغلبهم شهرة في الجاهليّة الأعشى، الذي تروي كُتبُ السير أنّه أراد أن يُسلم فاعترضته قريش في طريقه إلى النبيّ وأخبرته أنّ الإسلام حرّم الخمر، فكرّ راجعاً. لكنّ أبا نواس فاق سابقيه ولاحقيه جميعاً في وصف الخمر لأنّه جاوز الوصف إلى اتّخاذ الخمر عقيدةً يُجاهر باعتناقها ويدعو إليها منفّراً الناس من عقائدهم.
وقد أكّد طه حسين أنّ الخمر ليست خالصة للّهو عنده، "وإنّما كان أبو نواس يتخّذ الخمَر وسيلةً إلی شيء من الجدّ، له خطره في الأدب". والمذهب الخمريّ النواسيّ يستمدّ عمقه وجدّته من مقوّمات ثلاث:
1. المجاهرة بالمعاقرة ورفض التستّر
والقصائد في ذلك عديدة، لعلّ أشهرها:
اشرب فديت علانيه أمّ التستّر زانيه
والقصيدة الأخرى الأشهر:
ألا فاسقِني خمراً، وقل لي هيَ الخمرُ ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ
فما العيْـشُ إلاّ ســكرَة ٌ بعد سـكـرة ٍ فإن طال هذا عندَهُ قَصُرَ الـدهـرُ
ومــا الغَــبْـنُ إلاّ أن ترَانيَ صــاحِيــا وما الغُنْمُ إلا أن يُتَعْتعني السكْرُ
فَبُحْ باسْمِ من تهوى، ودعني من الكنى فلا خيرَ في اللذّاتِ من دونها سِتْر
ولا خيرَ في فتكٍ بدونِ مجانة ولا في مجونٍ ليس يتبعُه كفرُ
2. البطولة الخمريّة
سَخِر أبو نواس من بطولات الفرسان وعنجهية المحاربين واستبدلها ببطولات من نوع آخر، تتلخّص في معاقرة الخمر والبحث عن المتعة في شربها، يقول:
يا رُبَّ منزل خمّارٍ أطَفْتُ به والليل حُلّته كالقار سوداءُ
أو حين يقول:
وخَمّارَة ٍ نَبّهْتُها بعد هجْعَة ٍ وقد غابت الجوزاءُ، وارتفعَ النّسرُ
3. طقوس المنادمة
وضع أبو نواس آداب شرب الخمر وشرائط المنادمة وخصال الندماء، وقد جمعها في خمس: فالأولى الوقارُ واجتنابُ العربدة في الشرب، والثانية مسامحة الندامى على زلّاتهم، والثالثة ترك المفاخرة بالأنساب، والرابعة الاختصار في الكلام وتَرْك الثرثرة والهذر، أمّا الخامسة فهي حفظ سرّ النديم، في قوله:
حديث الأمــس ننســاه جميعاً فإنّ الذنب فيه للعُقارِ
ومن حكّمت كاسك فيه فاحكم له بإقالةٍ عند العِثارِ
4. الدعوة إلى الخمرة والمجون، فهو لا يجد اللذة في مجرّد الشرب، إنّما يرغّب الناس فيها، ومن هذا ما قاله في جمع من الشعراء يدعوهم إلى السهر عنده:
ألا قوموا إلى الكَرْخ ِ إلى منزل ِ خمّار
وبستان ٍ به ِ نخلٌ له زهرٌ بأشجار
فإنْ أحببتمُ لهواً أتيناكمْ بمزمار
وإنْ أحببتم ُ نيكاً فنيكوا ربّة َالدار
5. دوام السكر
لازم أبو نواس المعاقرة، وربّما لم تفارق يومَه أبداً، وهو يرى حياة المرء في دوام نشوة السكر:
فعيش الفتى في سكرةٍ بعد سكرةٍ فإن طال هذا عنده قصُر الدهرُ
وذكر في بعض قصائده أنّه لازم الشرب أسبوعاً كاملاً لم يصح منه، وهي داليته التي مطلعها "يا طيبنا بقصور القُفْص مشرفةً".
رغم ما يُنسب إلى أبي نواس من تهتّكٍ وجرأة، حاز على تقدير علماء زمنه ومن تأخّر منهم، حـتّى "لم يكن شاعر في عصره إلّا وهو يحسده، لميل الناس إليه، وشهوتهم لمعاشرته، وبُعدِ صيته، وظُرف لسانه"
لم يكن أبو نواس أوّل من وصف الخمر أو عُرف بها في الشعر، إنّما سبقه إلى ذلك شعراء كُثُر، أغلبهم شهرة في الجاهليّة الأعشى، الذي تروي كُتبُ السير أنّه أراد أن يُسلم فاعترضته قريش في طريقه إلى النبيّ وأخبرته أنّ الإسلام حرّم الخمر، فكرّ راجعاً.
علاقته بالمرأة، وغزله في المذكّر، والغلاميّات
اشتهرت في حياة أبي نواس امرأتان، إحداهنّ اسمها عَنان، وكانت مولدة من مولدات اليمامة، وبها نشأت وتأدبت، واشتراها الناطفي، ورباها، وكانت صفراء جميلة الوجه، مليحة الأدب والشعر سريعة البديهة، وكان فحول الشعراء يساجلونها، ويقارضونها الشعر، فتفحمهم.
وبينها وبين أبي نواس أخبار كثيرة ونقائض في الشعر، من ذلك أنّ أبا نواس أراد إحراجها يوماً وعندها وجوه أهل بغداد وأشرافها، فقال لها:
ألم تَرِقِّى لصبٍّ يَكْفيهِ منكِ قُطَيْره
فقالت:
إِيّايَ تَعني بهذَا عَليك فَاجلدْ عُميرهْ
فقال:
أخافُ إِن رُمتُ هذَا عَلى يَدِي مِنكِ غَيرهْ
فقالت:
عَليكَ أمَّكَ نِكها فَإنها كندفيرة (عجوز خرفة حسب ابن منظور)
ومن هذا أيضاً، أن دخل أبو نواس يوماً عليها، فتحادثا ساعة، ثم قال لها:
إن لــي أيــراً خبـيـثـاً لـونه يحكي الكميتا
لو رأى في الجو صدعاً لنزا حتى يموتا
أو رآه فوق ســـقــف لتحول عنكبوتا
أو رآه جــوف بحــر صار للإنعاظ حوتا
فما لبثت أن قالت:
زجّـوا هــذا بــألـــف وأظن الألف قوتا
إنني أخشى عليه إن تمادى أن يموتا
أمّا الثانية، فتكاد تكون الوحيدة التي اتّصلت بها أخبار عن ميل أبي نواس لامرأة حتّى قيل إنّه "لم يصدق في حبّ امرأة غيرها"، وهي جِنان. وكان في ما ترويه الأخبار يشبّب بها وُيرسل إليها، ومن شعره فيها:
جِنانُ إن جُدتِ يا مُنايَ بما آملُ لم تقطر السماءُ دَما
إِن تَمادَى وَلا تَمادَيتِ في مَنعِكِ أُصبِح بِقَفرَةٍ رِمَما
أمّا أغلب غزله، فانصرف إلى المذكّر، وكان هذا الميل في كثير من الشعراء الماجنين، منهم مطيع بن إياس والحسين بن الضحّاك ووالبة بن الحُباب (الذي كان أصلاً أستاذ أبي نواس ويحكى عن علاقة جنسية بينهما) أمّا ميل أبي نواس إلى الغلمان ونفوره من المرأة تعزّزه أخبارٌ اتّصلت بها أشعارٌ مثبتة في ديوانه، من ذلك أنّه ذكر بعض أسباب نفوره منها كالطمث والإنجاب والأخلاق السيّئة في قوله:
لا أبتغي بالطمث مطمومة لا أبيع الظبيَ بالأرنـــــــب
لا أدخل الجحر يدي طائعاً أخشى من الحيّة والعقرب
ومن أشعاره في الغلمان، قوله:
يسعى بها خَنِثٌ في خُلقه دمَثٌ يستأثر العين في مستدرج الرائي
مقــرّطٌ، وافــرُ الأرداف، ذو غنجٍ كـــأنّ في راحتيه وسم حنّاء
ونجد في غزليات أبي نُواس ضرباً آخر شاع في القرن الثاني وهو الغزل في الغلاميات.
وهنّ جوارٍ يلبسن ثياباً يُعرفن بها هي "القراطق" وهي ثياب للنوم ملتصقة بأجسادهنّ لتبرز مفاتنهنّ. وكان لأبي نواس مغامرات معهنّ، وقد وصف واحدة في بعض قصائده فقال:
غلام وإلّا فالغلام شبيهها وريحان دنيا لذّة للمعانق
خلابة زنديق ولحظة قينة بكل الذي تهوى ومنية عاشق
علاقة أبي نواس بالإيمان
إنّ باب الدين والزندقة من أكثر الأبواب التي ولجتها الشائعات والتلفيقات في أخبار أبي نُواس بإجماع المؤرّخين وكتّاب السِيَر.
لكنّ الناظر في شعره يقف على حقيقة مؤدّاها أنّ أبا نواس جمع بين لحظتين: لحظة الانفكاك من قيد التديّن، ولحظة اعتراف بالسلطة الدينيّة، ويمكن أن نُجمل معاني لحظة الانفكاك في ثلاثٍ:
1. الدعوة إلى ركوب المحرّمات
ويعلّل أبو نُواس ذلك غالباً باللّذة التي يجدها في الحرام كنحو قوله:
ألا خُذْها كمِصـباحِ الظّـلامِ سَليلَة َ أسْوَدٍ، جَعدٍ، سُخامِ
مُـعَتَّقَةٌ، كمَا أوْفَى لنُـــوح سوَى خمسينَ عاماً ، ألفُ عـام
وإنْ قالوا: حرامٌ؟ قلْ: حرامٌ! ولــكِنّ اللّــذاذَة في الْحَــرامِ
2. التضايق من حدود الشريعة
التضايق من حدود الشريعة، ويبدو ذلك خاصّة في ضجره من فرض الصلاة التي هجرها دوماً، ومن شهر رمضان ثمّ في فرحه بقدوم العيد:
ولّى الصّيامُ، وجاءَ الفطرُ بالفرحِ وأبْدَتِ الكأسُ ألواناً من الْمُلَحِ
زارَكَ اللّــهْوُ في إبّــانِ دَوْلَــتِـهِ مُجَدَّدَ اللهو، بين العودِ والقدحِ
فليــسَ يُسْمَعُ إلا صوتُ غانية مجْهودةٍ، جدّدَتْ صوتاً لمقترحٍ
والخمرُ قد بَرَزَتْ في ثوبِ زينتِها فالناسُ ما بين مخمورٍ، ومصْطبحِ
أو حين يتشكّى من منع الخمر في شهر الصوم وتحايله عليه:
منع الصــوم العقارا وزوى اللهو فغارا
وبقينا في سجون الـ صوم للهمّ أسارى
غـيـر أننا ســـنداري فيه من ليس يدارى
نشرب الليل إلى الصبـ ح صغاراً وكبارا
ونغنّي ما اشتـهـيـنـا ه من الشعر جهارا
اسقــني حتى تراني أحسب الديك حمارا
3. رفض التوبة
وكان أبو نواس يُكثر في شعره من ردّ لومة اللائم عليه، وأشهر ردوده على رجال الدين قصيدته "دع عنك لومي" الشهيرة، ورفض ترهيبهم من الجحيم والحساب حتّى قال:
يا من يلوم على حمراء صافية صرْ في الجنان ودعني أسكن النارَ
أمّا لحظة اعترافه بكونه جزءاً من الثقافة الإسلامية، فتظهر في ومضات متفرّقة من قصائده،
وهي لحظات يخاطب فيها ذاته فيلتفت إلى ما هو عليه من إمعان في العبث، ومن أشهر أبياته في هذا المجال، بيتان حسده عليهما شاعر الزهديات أبو العتاهيّة الذي عُرف بحبّه لأبي نواس:
يا رَبِّ إِن عَظُمَتْ ذُنوبي كَثرَةً فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ
إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُـحسِنٌ فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ
أَدعوكَ رَبِّ كَمـا أَمَـرتَ تَضَرُّعاً فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ
ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجا وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ