كان يمكن لزيارة دونالد ترامب العراقية أن تكون عادية ومن ضمن المألوف الذي اعتاد عليه رؤساء أميركيون كُثر لجهة تفقّد قوات بلادهم المُنتشرة في المناطق الحارّة خلال فترة عيدَي الميلاد ورأس السنة.
قد تكون في الشكل كذلك. أي من ضمن ذلك التقليد الرئاسي. لكنها في المضمون بدت كافية لإشعال غضب حلفاء إيران في بغداد الذين وضعوها في سياقها الصحيح باعتبارها إشهار تحدٍ للنفوذ الإيراني وتثبيتاً للموقف القائل بأن ترامب ينسحب من سوريا ليركّز حضوره أكثر فأكثر في العراق في سياق حربه المفتوحة (الباردة) على طهران وامتداداتها الخارجية.. ثم في سياق طموحه (الواضح؟) لإعادة ذلك البلد إلى ما كان عليه قبل أربعة عقود!
وما قاله ترامب في العراق، عن «البقاء فيه لمراقبة داعش وإيران» غير الذي قاله عن سوريا حيث ذهب في فذلكة قراره بالانسحاب منها إلى حد الجهر بأن واشنطن «تعبت» من تقديم المال والدم والسلاح في «حروب داخلية» إسلامية – إسلامية أو عربية – عربية! وآن الأوان في رأيه لأن يتولى أهل تلك الحروب تقليع أشواكهم بأيديهم! وأخذ وقتهم وراحتهم بالتقاتل إلى يوم القيامة! ومعالجة «الإرهاب» الخارج منهم بأنفسهم!.. وما هو أكثر من ذلك!
أي أن ترامب العراقي غير ترامب السوري! بحيث أن مواقفه التي أطلقها من قاعدة «عين الأسد» في الأنبار دلّت على وعي مختلف لأميركا ودورها ونفوذها! وغابت عنها قصص «التقديمات» و«التضحيات» المجانية لصالح العودة إلى الجذور! حيث المصالح الكبرى للولايات المتحدة تستدعي الحضور للدفاع عنها أينما كانت. من شبه الجزيرة الكورية، إلى أوروبا الوسطى ودول البلطيق، إلى الشرق الأوسط وإلى غير ذلك، من شرق الأرض إلى مغربها ومن شمالها إلى جنوبها!
لكن لا يمكن الافتراض بأن زيارة العراق هذه عدّلت وجهة نظر ترامب وأبعدته عن أدلجة الأكلاف التي يعتنقها أو عن اعتماده نَفَساً انكفائياً تحت لافتة «أميركا أولاً»، أو عن انكبابه على بثّ الذعر في صفوف حلفاء بلاده التاريخيين والطبيعيين والتقليديين من خلال إشاراته الدّالة على أو الراغبة في كسر الاصطفافات المعتادة بعد انتهاء الحربين العالمية الثانية والباردة، والذهاب من هذه النقطة إلى مسار آخر قوامه «التحالف على القطعة» أو حيث «لكل مقام مقال»! ولكل حالة ملائكتها وشياطينها وظروفها وأكلافها وضروراتها.. وحيث أن زمن اليقينيات والبديهيات ولّى واندحر أمام براغماتية لا بدّ منها ويعرف فصولها وأصولها رجال الأعمال والمال أكثر بكثير من رجال الدولة والسلطة!.. وحيث أن ترامب نفسه يتصرّف وكأنه رجل مال وأعمال أكثر في واقع الحال، من كونه رجل دولة، بل رئيساً لأخطر وأكبر دولة في العالم!
لا تدلّ الزيارة العراقية ولا الرسالة التي وجهتها إلى تعديل في سياقات تفكير ترامب «الاستراتيجية» تلك. بقدر ما تدلّ على براغماتيته في مقاربة مصالح أميركا وفق تلك السياقات من دون أن يأخذ في حسبانه، أو أن يهتم في الواقع، بأي انتقاد له أو بإمكان اتهامه بالازدواجية أو بالتناقض.. بل العكس باعتبار أنه يؤكد فرادته لجهة كونه يسعى سعياً فعلياً إلى تنفيذ ما وَعَدَ به في حملته الرئاسية، ويقيس الأمور استناداً إلى الأرقام وليس المُثل.. تماماً مثلما يفعل التاجر الشاطر! ويمكنه بكل بساطة أن يُجادَل أياً كان، بأن انسحابه من سوريا لا يتناقض مع ترسيخ وجوده في العراق! حيث الأولى لا وزن لها في أسواق النفط والغاز والتجارة العالمية، وموقعها الجغرافي لا يعطيها ميزة التحكّم أو التأثير بخطوط النقل والملاحة لا في أعالي البحار ولا في أدناها.. ثم أن «خطرها» على إسرائيل كان بعيداً في الأصل وازداد بُعداً! ولا شيء في واقع الحال يدفع به، كرئيس أميركي إلى تقديم أي «مساهمة» استثنائية خاصة بالنكبة السورية في ذاتها.. الإرهاب الداعشي ضُرِبَ إلى حدّ كبير في كل الجغرافية السورية! والحضور الروسي بحراً وجوّاً واستشارات عسكرية فيها لا يُخلخل «الأمن الدولي»! ولا يُعرّض العلاقات الدقيقة مع الولايات المتحدة إلى مخاطر ذات أبعاد استراتيجية.
.. ثم الأهم من ذلك هو أن تثبيت الحضور الأميركي في العراق، بعد إلغائه في سوريا يدعّم الحملة على النفوذ الإيراني ولا يُضعفها! في سوريا هناك إسرائيل وروسيا وتركيا، وهذه، كل من جهتها، تُقارب الموضوع الإشكالي الإيراني بما يكفي لانتفاء الحاجة إلى الأميركي! في حين أن العراق مُسيَّب! ولا حضور فيه سوى لإيران عملياً وسياسياً وانتشارياً و«فكرياً»! وهذا تمدّد بعد الانسحاب الأميركي الكبير منه أيام السيئ الذكر باراك أوباما! والعمل على العودة إلى تفعيل الدور والحضور راهناً تمليه أسباب كثيرة، منها أهمية البلد في ذاته وثقله النفطي، ومنها جواره الحدودي المباشر لإيران! ومنها امتلاكه لمواصفات طبيعية وجغرافية تمكّن من تفعيل قرار قطع الطريق على الهلال الإيراني والعمل على ضرب نفوذ طهران بطريقة أفضل بأشواط من تلك الممكنة في شرق الفرات السوري!
هذا رئيس شاطر وليس أهوجاً! ويعرف ماذا يفعل ولا ينفعل! يُحاصر إيران بالعقوبات ويدخل إلى «مدارها» من دون «الدخول» فيها أو إليها! وتكتيكاته حتى الآن تبدو ناجحة وتدفع الإيرانيين إلى الدفاع وليس إلى المبادرة.. وإلى القنوط والإقرار بالصعاب وليس إلى التكبّر والتجبّر وادّعاء الإنجازات والإلهيات والانتصارات! ويكفي في تأكيد ذلك أن يتبرّم ابراهيم الجعفري وقيس الخزعلي و«حركة النجباء» من زيارة ترامب إلى «الأنبار المحرّرة»!!