يعاني سياسيون مسيحيون، مما اقترفوه هم بالذات قبل سنوات. صرخة رئيس الجمهورية ميشال عون بعد صرخة البطريرك الماروني بشارة الراعي، تدلان على استفاقة قد تكون متأخرة. فجأة، وعكس ممارسة مديدة، انتقد عون ابتكار أعراف جديدة! إذ وصف عدم تشكيل الحكومة، بأنها "معركة سياسية، ويبدو أن هناك تغييرًا في التقاليد والأعراف في لبنان". هكذا عبّر عون عن معاناته كرئيس للجمهورية مع الإملاءات، ومع فروض الأمر الواقع.
حلال لي حرام للآخرين
والمدهش أن ممارسة فرض الأمر الواقع كان هو جزءاً منها، وفي صلبها، منذ العام 2006، بل وكان المندفع إلى ذلك، خصوصاً في لحظة 7 أيار 2008، وما تلاها، وتبدت ذروة "فرض الأمر الواقع" في تعطيل مجلس النواب، إلى حين وصوله إلى رئاسة الجمهورية. وجزء أساسي من هذا الأمر الواقع، كان قد تكرّس كرمى لعيون عون وصهره تحديداً، من تعطيل عملية تشكيل الحكومات المتعاقبة، لأشهر متعددة، نزولاً عند اشتراط توزير جبران باسيل، مروراً بإعادة هندسة قانون الانتخابات النيابية برمته من أجل ضمان مقعد باسيل، وصولاً إلى تعطيل الإنتخابات الرئاسية لسنتين ونصف، فقط لتوفير الظروف المناسبة لإنتخاب عون، وفق منطق "أنا أو لا أحد".
طوال هذه الفترة، كان عون وفريقه السياسي يمعن ضرباً في إتفاق الطائف، واقترح أكثر من مرّة، وفي أكثر من محطّة، إدخال تعديلات عليه، كإنتخاب الرئيس من الشعب، وغيرها من الاقتراحات.. التي لم تهدف إلا لفرض أمر واقع غير دستوري، وتغيير الأعراف في البلد. لكن، ما كان يجوز سابقاً بالنسبة إليه أصبح اليوم محرّماً بحكم موقعه على رأس هرم السلطة اللبنانية!
تخوّف من المثالثة
يأتي موقف عون بعد موقف صارخ أطلقه البطريرك الراعي، في رسالته الميلادية. فحوى الموقف الكنسي يرتكز على ضرورة الحفاظ على اتفاق الطائف، وما يعنيه من إقرار عرفي وقانوني ودستوري، بامتيازات المسيحيين، السياسية والقانونية والإدارية. وهو الإتفاق الذي أوقف العدّ وثبّت المناصفة.
اليوم أي كلام عن إحداث تغييرات جديدة أو إدخال أعراف مستحدثة، سيعني بشكل أو بآخر ضرب المناصفة، والخسارة الأولى والأخيرة ستقع على المسيحيين. لذلك يبدو عون منتفضاً رافضاً السماح بتبديد ما تحقق.
الصراع المتجدد، والذي كان صامتاً بين سلطة سياسية وقوة أمر واقع، يؤدي لا بد إلى افترقاء بين خطّي الحلفاء الإستراتيجيين.. وإن دون القطيعة. الصراع تكررت محطّاته. في السابق، وطوال سنتي عهد عون، لم يأخذ الخلاف مع حزب الله طابعاً مباشراً، لخشية عون ورئيس التيار الوطني الحرّ من إغضاب الحزب. فكانت السهام تصوب نحو رئيس مجلس النواب نبيه برّي، وبالأخص في محاولة منعه من الحصول على وزارة المالية، والتي لديها صفة "التوقيع الرابع" في المعادلة اللبنانية، وما يمنحه هذا التوقيع من حق الفيتو للطائفة الشيعية. حينها لم تكن مساعي باسيل للحصول على وزارة المالية إلا محاولة منه لسحب ورقة قوية من يد الشيعية السياسية لصالح تعزيز موقعه. فأي قرار سيصدر عن الحكومة اللبنانية، بحاجة إلى توقيع وزير المالية بوصفها أم الوزارات. وبامتناع الطرف الشيعي عن التوقيع على أي قرار، يكون متفقاً عليه بين رئيس الجمهورية الماروني ورئيس الحكومة السنّي، يصبح بإمكان الشيعة عرقلته. وهذا، بديهياً، مدخل في السياسة يقضي على المناصفة ويصب في خانة المثالثة.
عهد الندم؟
أخذ هذا الصراع الصامت بالتوسع، وطفى على السطح في معركة تشكيل الحكومة، من خلال منع حزب الله وحركة أمل التيار الوطني الحرّ من الحصول على الثلث زائد واحد، كما أرسيا منطقاً جديداً في عملية تشكيل الحكومات، وهو عدم تسليم أسماء وزارئهما إلا بعد تحقيق شروطهما، وهذا أقسى ما يصيب عون في عهده.
إذا تمعّنا بهذه الإشكالات وما تطاله من أسس سيادية ودستورية، وبالإستناد إلى الصرخة التي أطلقها عون ومن خلفه الراعي، لا بد من طرح سؤال عما إذا بدأ عهد الندم وعض الأصابع لدى المسيحيين.
والسبب بسيط: أي دخول في أزمة نظام، والحديث عن تغيير أعراف أو قوانين، ستضع المسيحيين أمام حقيقة لا مفرّ منها، أن النظام أصبح في خطر، وهذه قالها رئيس الجمهورية بطريقة غير مباشرة من بكركي، حين اعتبر أنه يتم خلق أعراف جديدة. ما قصده هو أن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة هما من يشكلان الحكومة، لا أن يتم الضغط عليهما لوضع شروط جديدة في عملية التشكيل. وأي تعديل في الصيغة ستضرب الإمتيازات المسيحية في النظام.
ما يجري قد يعني أن العهد القوي قد انتهى، أو أننا في بداية إعادة تحديد الأحجام السياسية في البلد.. بدءاً بخلق أعراف مصطنعة. وبما أن أي عرف سيكون أقوى من الدستور، فلن يكون هناك حاجة لإجراء أي تعديل دستوري. وحزب الله أذكى من الدخول في أي سجال دستوري من هذا النوع، خصوصاً أنه اختبر فعل قوته وبراعته في المناورة السياسية والتلاعب بالتناقضات اللبنانية، ما حتّم حاجة الجميع إليه. عون في فترة ما قبل الرئاسة، وما بعدها، ركن إلى دعم قوة الحزب. الحريري تلزمه موافقة الحزب للوصول إلى رئاسة الحكومة. باسيل بطموحاته المستقبلية، وفي معركته الرئاسية المرتقبة، يعوز حزب الله.
لا شك أن كل ما يجري، لن يؤدي إلى إفتراق عون عن الحزب، على المدى العيد. لا يستطيع عون أو باسيل مواجهة حزب الله، وهما لا يريدان ذلك. من يريد المواجهة كان بإمكانه أن يطلب من رئيس الحكومة المكلف الذهاب بالتشكيلة إلى بعبدا لتوقيعها، لكن هذه الخطوة من سابع المستحيلات. يكتفي عون برفع الصوت فقط، بانتظار لحظة تعيد جمع ما تفرّق بينه وبين الحزب، خصوصاً أن ما يجمعهما سياسياً وإقليمياً، أبعد من خلافات "تفصيلية" آنية، ستكون قابلة للتغير بتغير الظروف والمواقع أو الاحتياجات.