المحطات الفضائية، التي تبث سموماً دينيّة من كل الألوان، سنّيّة، شيعيّة، مسيحيّة إلخ. أليس من وسيلة لإسكاتها، لحجب الأفواه التي تربّي أجيالاً من الأحقاد، والضغائن، تحت ذرائع من مثل: "لكي يعرف الناس الحق من الباطل".
أيّ حقّ وأيّ باطلٍ، وطبقات الأرض ما عادت لتسع جثث المقتولين، تحت هذه المسمّيات. وكذلك السماوات لم تعد لتسع صرخاتهم، وصدى عذاباتهم وحشرجاتهم. ما أحقر التجّار بدماء الناس وما أسفههم.
***
عقب خروج الاستعمار من البلدان العربية، وبعد مصادرة حلم "القومية العربية" من جانب النظام "العربي الوطني" المولود، على أيدي الغرب، والمدعوم منه هو الاستعمار نفسه، سعت النخب العربية إلى استنهاض حالات الوعي المصدومة لدى شرائح حيّة ومؤثّرة في الوجدان الجمعي العربي. هذه النخب التي تعتبر أن مشروعها المُشار إليه، تلقى هزيمة بل هزائم وضربات متتالية، من الحكّام أبناء جلدٰتها. إذ إنه- في ذلك الزمن-كان مشروعاً لا يزال قابلاً للحياة، مع وعي تلك النخب واعترافها بضرورة مضاعفة الجهود لجعله أكثر ديناميكيّة وقبولاً، عبر اجتراح الآليّات والخطط والدراسات التي تعتمد الحداثة وميكانيزمات تتلاءم مع متغيّرات الواقع.
إلّا أنّ الديكتاتوريات في سوريا وفي ليبيا وفي مصر وفي العراق، وفي الكثير من الدول العربية، صادرت روحه ونقاء توجهه، حيث ظلّت تتبنى في خطابها العلني خطاب روح القومية العربية نفسه، الذي تبنّاه القوميون الوطنيون الأحرار عن كثب وبجدارة.
وقد راح الطرفان، كلّ منهما يخوّن الآخر. فاختلط الامر على المواطن البسيط وما عاد يعرف أيا منهما الخائن وأيهما المتهم البريء.
السؤال الآن، بعد سقوط المدن العربية الواحدة تلو الأخرى بيد أعداء القومية العربية: إيران، روسيا، إسرائيل، تركيا، أميركا، والكثير من الأعداء الآخرين: هل من قوميّين عرب حقيقيّين، في هذا الجيل أو الجيل القادم، ينبرون لإحياء فكرة القومية العربية، التي لا سبيل سواها للانتصار، ويدركون أنّ الدول هذه تنطلق من جذرٍ وأساسٍ وأهدافٍ قوميّة، وأن الإيديولوجيات سواء أكانت سياسية أم دينية، التي يرفعونها، ليست سوى نفاقٍ ودجل وتضليلٍ يستدرج إلى حظائرهم بسطاء الفهم وسُذّج العقول؟!
***
يعتقد بعض "الشعراء" المدافعين عن أحزاب ومنظّمات مذهبيّة أن أثمانهم تزيد عند القتلة الجزّارين- الذين يدافعون عنهم- على أثمان خراف يسمّنونها، لذبحها كأضحيات في الوقت المناسب. ويعتقدون أنّ في إمكانهم إسكات أصوات الأحرار، ولا يعرفون أن الزمن تجاوزهم، وأن والثوّار قد تجاوزوهم، وأنّهم بدفاعهم، وجعجعاتهم في برامج "التوك شو" لا يشبهون سوى الضفادع التي تملأ الأرجاء نقيقاً، وما إن تجفّ مياه القناة سيتجمّدون، ييبسون على الضفاف، ولا من يلقي إليهم بنظرة، بقطرة ماء واحدة.
***
الإعلام اللبناني في غالبيّته شريك في تعليب صورة طرابلس، على أنها مدينة محرومة، متخلّفة، وأنها تعوم على الجرائم والانتفاع والغنائم والتحيّز.
طرابلس عاصمة ثانية للبنان، أليس فيها سوى بيوت تنك وخرائب، كي يسلّط الإعلام اللبناني أضواءه عليها، بحجة أنه يدل على مكامن السوء والتردي، لافتاً إليها أنظار المسؤولين في "الدولة"؟
أليس في بيروت، وفي صيدا، وفي صور وفي زحلة، وفي بعلبك، وفي بقية المدن الّلبنانية الأخرى من هذا وأكثر بكثير مما في طرابلس؟
أليس في طرابلس سوى فقراء، لا يحسنون ترتيب هندامهم، ولا تسريح شعورهم، وحلق لحاهم، حتّى لا يجد هذا الإعلام سواهم من النخب الطرابلسيّة المثقّفة، يستشيرهم، ويسلّط عليهم أضواءه المشعّة، حاملة الأمراض الكهرومنافقية، الانتفاعية، الرخيصة؟
***
طرابلس: جُرح التنوّع وملاذ الفقراء والمطرودين. طرابلس الذين يبتزّون تسامحكِ، يدفّعونكِ أثمان سفالاتهم، ووضاعة نفوسهم من سياسيّين ومن كانوا قادة محاور ومنافقين، ستطردينهم ذات يوم كما ذباب سام.
طرابلس، بيروت، البقاع فقط: مدن، قرى تنبض، تقاوم التدجين والخضوع لمشيئة الوحش، لسلطان الحقد والتبعيّة والارتهان له.
تقاوم ثقافته الطالعة من قلب عصر الدويلات والفِرَق والتذابح الوحشي الكريه من تاريخ المنطقة.
طرابلس، بيروت، البقاع: التنوّع وقبول الآخر من لبنانيّين وسوريّين, وعربٍ وبشرٍ أمميّين.
في طرابلس، بيروت، البقاع، وغيرها من المدن والقرى اللبنانيّة ثمّة شرفاء، نبلاء، أطهار ذائبون في الإنسانية، لكن جُبّة الوحش، وطاقيّة إخفائه تصادر الهواء، تسدّ عليهم منافذ الضوء والحريّة.
ذات يوم سيصحو الوحش وجبّة قمعه تمزّقت، وطاقيّة إخفائه صارت نعلاً.
فطوبى لأصدقائي المقهورين، والسلام والحب والعيون لكِ يا طرابلس.
غسان علم الدين