يضع العام الجديد السلطات اللبنانية أمام استحقاقات اقتصادية ومعيشية وسياسية داهمة، تتصدرها الإصلاحات المطلوبة لمؤتمر «سيدر» بهدف تفعيل الاقتصاد اللبناني وتفعيل منظومة محاربة الفساد، والحد من الهدر عبر ضبط قطاع الكهرباء، وذلك وسط ضغوط اقتصادية ومعيشية واستحقاقات سياسية قد تتحوّل مادة للانقسام؛ أبرزها ملفا إعادة النازحين السوريين، والانفتاح على دمشق.
وإذا كان الملف الأخير مرتبطاً حكماً بالمقاربة العربية، والتزام لبنان بقرارات جامعة الدول العربية، فإن ملف النازحين السوريين مرتبط بالإجراءات الدولية، وسط انقسام لبناني بين انتظار الحل السياسي الشامل في سوريا، واختيار قنوات أخرى لإعادة النازحين؛ أبرزها استكمال المبادرات المحلية لإعادة النازحين طوعاً إلى سوريا، واستئناف العمل بالمبادرة الروسية التي لم يبدأ تطبيقها منذ خريف 2018. ويتوقع أن تمثل الملفات الخلافية الاستراتيجية تحدياً للحكومة المؤلفة حديثاً، واختيار المعالجة الهادئة.
وقالت مصادر سياسية مواكبة لـ«الشرق الأوسط» إنه إذا بقيت الظروف الدولية على حالها، فإن لبنان سيعتمد الاستراتيجية التي اتبعت في وقت سابق لمقاربة الملفات الخلافية، بحيث لم يؤدِ الانقسام الحكومي حول عناوين معينة إلى تفجرها.
وتتصدر تلك الخلافات قضية «التطبيع» مع النظام السوري، التي تدفع قوى «8 آذار»، باتجاه تطبيقها لحل أزمة النازحين السوريين، وهو ما يرفضه حزب «القوات اللبنانية» الذي يدعو للالتزام بقرارات جامعة الدول العربيّة، فيما يعد رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري أن القضايا التي تتطلب تنسيقاً مع دمشق، تجري عبر المبادرة الروسية لإعادة النازحين. ووجد لبنان حلولاً في وقت سابق للتنسيق مع دمشق حول ملفات أمنية، عبر مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم الذي ينسق الآن لإعادة النازحين، كما توجه وزراء من «قوى 8 آذار» إلى دمشق «بصفة شخصية»، وشاركوا في حضور معرض دمشق الدولي على مدى عامين.
وكان الأمن العام اللبناني أعلن في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي أن عدد النازحين السوريين الذين غادروا لبنان منذ شهر يوليو (تموز) الماضي إلى سوريا مستفيدين من التسهيلات المقدّمة من الأمن العام على المعابر الحدودية لتشجيعهم على العودة، بلغ نحو 80 ألف نازح، فيما قدّر عدد العائدين ضمن الحملات الطوعيّة التي تنظّمها المديرية 7670 نازحا، وبالتالي يصبح مجموع النازحين الذين عادوا إلى سوريا قد بلغ حتى تاريخه نحو 87670 نازحا.
وفي حين تتجنب الأطراف ملفات الخلافات، تتصدر الإصلاحات المالية والاقتصادية مهام الحكومة اللبنانية ومجلس النواب. ومع أن الاستحقاقات المالية المطلوبة من لبنان في عام 2018 تناهز 2.65 مليار دولار، تتنوع بين استحقاقات برأس المال وخدمة الدين العام، إلا إن ذلك لا يعد أبرز التحديات الاقتصادية التي يتصدرها «تخفيض الإنفاق العام» التزاماً بشروط المانحين في مؤتمر «سيدر» التي فرضت على لبنان القيام بإصلاحات بغرض الاستفادة من مقررات «سيدر»، وستحتل قائمة أولوياتها قضية تخفيض عجز الموازنة 5 في المائة، بحسب ما قال الخبير الاقتصادي البروفسور جاسم عجاقة لـ«الشرق الأوسط».
ومع تأكيد المسؤولين اللبنانيين أن الأولوية في المرحلة المقبلة، وتحديدا بعد تشكيل الحكومة الجديدة، ستكون العمل على إصلاحات مؤتمر «سيدر» بشكل خاص والقضايا الاقتصادية بشكل عام، يوضحّ عجاقة أن العجز في الموازنة الآن يبلغ 10 في المائة، وعليه «تجب زيادة الإيرادات أو تخفيض الإنفاق لتخفيض العجز»، موضحاً أنه «من الصعوبة زيادة الإيرادات عبر الضرائب، منعاً لقيام توتر في الشارع»، مما يعني أن الخيارات «محصورة في تخفيض الإنفاق».
مع العلم بأنه في المقابل كان قد أعلن الحريري في مؤتمر اقتصادي عقد في بيروت الأسبوع الماضي، أن الحكومة المقبلة ستحاول خفض الدعم الذي تدفعه للطاقة بنحو 600 مليون دولار في عام 2019، وهو ما لاقى ردود فعل شعبية رافضة.
وأوضح رئيس الحكومة المكلف: «إذا وفرنا الملياري دولار التي ندفعها على الطاقة، نكون قد وفرنا على الخزينة هذا المبلغ كاملا. مشكلتنا الأساسية هي في الكهرباء، علينا أن نخفض دعمنا لقطاع الطاقة من ملياري دولار إلى صفر. ويفترض بنا أن نخفضها اعتبارا من العام المقبل بقيمة 600 مليون دولارا تقريبا. وحين تصبح لدينا كهرباء 24 على 24 ساعة فسنرفع تعرفة الكهرباء، وهذا أيضا سيوفر لنا مزيدا من العائدات».
ويشكل الإنفاق الرسمي على قطاع الكهرباء وعلى رواتب الموظفين في القطاع العام وعلى خدمة الدين العام، 80 في المائة من الإنفاق الحكومي، وهو ما يدفع إلى الضغط لتحسين قطاع الكهرباء أولاً. ويقول عجاقة إن «التحسينات في القطاع إذا لم تشمل الشراكة بين القطاعين العام والخاص بوصفها مخرجا أساسيا لإصلاح القطاع، فإنه من الصعب تسوية المشكلة المتفاقمة منذ سنوات، وتنفق عليها الحكومة نحو ملياري دولار سنوياً». ويرى عجاقة أنه لا سبيل لإدخال إيرادات إلا عبر رفع الرسوم الجمركية بنحو 10 في المائة، لأن لبنان يستورد بنحو 20 مليار دولار سنوياً، مما يعني أن مبلغ ملياري دولار سيدخل إلى الخزينة. وقال: «إذا ارتفعت أسعار السلع الأجنبية، فذلك سيدفع للاعتماد على السلع المحلية التي تعيد تشغيل اليد العاملة وتخفض البطالة وتحرك الاقتصاد وتخفض الضغط على ميزان المدفوعات الذي يمثل المشكلة الأساسية لحماية العملة الوطنية» رغم تأكيده أن سعر صرف الليرة «مستقر ولا يمثل تحدياً بالنظر إلى الإجراءات التي وضعها مصرف لبنان لحماية الليرة».
ورغم تلك التحديات، فإن ثمة بارقة أمل للبنانيين تتمثل في انطلاق أعمال التنقيب عن النفط والغاز في المياه الاقتصادية اللبنانية التي يتوقع أن تبدأ مطلع فبراير (شباط) 2019. واستكمل لبنان الإجراءات القانونية لانطلاق ورشة التنقيب عن النفط والغاز، حيث منحت السلطات موافقتها على خطة قدمها تحالف يضم شركات «توتال» الفرنسية و«إيني» الإيطالية و«نوفاتك» الروسية لبدء التنقيب. وكان لبنان قد وقع في فبراير الماضي أولى اتفاقياته لاستكشاف وإنتاج النفط والغاز البحري، في المنطقتين «4» و«9» قبالة الساحل اللبناني.
وفي إطار مشروع النفط والغاز، أعلن الحريري الأسبوع الماضي، أن هناك مناقصة ثانية يجب أن تجرى في شهر فبراير أو مارس (آذار) المقبلين، مشيرا إلى أنه «حين أجريت المناقصة الأولى التي حصلت عليها شركة (توتال) لم يكن هناك كثير من الشركات المهتمة، أما اليوم فالأوروبيون والأميركيون والإنجليز باتوا مهتمين. وقد لاحظت اهتماما بالاستثمار في لبنان، خصوصا في مجال الغاز والنفط. واعتبارا من منتصف العام المقبل سيبدأون بتحضير أنفسهم لذلك».