أولاً: اللواء غازي كنعان...
حضر اللواء كنعان إلى لبنان ليشغل قيادة جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية برتبة عقيد عام 1982؛ ليُغادرُه بعد العام ألفين برتبة لواء، وليشغل منصب وزير الداخلية في سوريا، و "ينتحر" في مكتبه، ليُشكّك بذلك كثيرون، لعل أشهرهم الصحافي البريطاني روبرت فيسك الذي قال بأنّ كنعان ليس من صنف الرجال الذين ينتحرون.
بالعودة إلى سيرته العسكرية الأمنية في لبنان، يمكن الجزم بأنّه كان المهندس لسياسات الانقسام والشرذمة، وإشعال حرائق الحروب الأهلية المتنقّلة ببراعة أين منها براعة حاكم مصرف لبنان في "هندساته المالية"، ويذكر وضاح شرارة هذه الأيام اللواء كنعان في كتابه أحوال أهل الغيبة، فينسب إليه إنجازات شيطانية يعجز عنها إبليس نفسه، فقد بذل خلال الحقبة الطويلة من ولايته على لبنان جهوداً جبارة في تصديع اللبنانيين، أهلاً وطوائف، وشراذم طوائف، وشطور أحزاب وأجنحة، وبلاداً ("الجنوب" و"الضاحية" و"الغربية") فاستعدى الجماعات و"المُتّحدات" العصبية بعضها على بعض، ولم تبق (حسب شرارة) جماعة لم تنقسم على نفسها تدريجياً وبطيئاً، فانقسم القوميون السوريون حزبين "مُسلّحين"، وانقسمت "القوات اللبنانية" حزبين قبل أن ينقسم شطرها الأكبر أحزاباً، وانقسمت الكتائب، وانقسم المسلمون السُّنّة، وانقسم "أهل" طرابلس، وأقام الشيعة على "ثنائية" مُركّبة وعجيبة وتوحدوا على "مقاومة" هي "سُلّمهم" إلى "حكم لبنان على حدّ قول أحد مُعمّميهم وإلى التّسلُّط على ريعه الناضب، وحاولت "ثنائية درزية" شقّ طريقها إلى العلن قبل أن توأد "من غير شدّة. ولم يُستقبل أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني بدمشق إلاّ بعد أن انشقّ على نفسه، وأنشب الانقسام في الانقسامات والشطور نفسها يقول شرارة: فقام إيلي حبيقة على سمير جعجع، وقام جورج سعادة على جعجع، وفؤاد مالك على جعجع، وسُجن جعجع، واغتيل حبيقة، واقتتل حزب الله (ومحمد حسين فضل الله) وأمل، وانشقّت أمل كُتلاً، وخسرت عسكرها في قتال الفلسطينيين.
وعندما احتاجت إيران الخمينية إلى سند عربي بوجه "قادسية" صدام حسين، وقصده القدس عن طريق عبادان، كان الإستثمار الإيراني في لبنان "العربي" على حدود إسرائيل، وهذه فرصة تاريخية انتهزتها السياسة السورية، وأدّى غازي كنعان كتابتها الموسيقية أداءً بارعاً، فأرجع القوات السورية إلى بيروت، بعد تمهيده الطريق بواسطة اقتتال درزي -شيعي وشيعي - شيعي، وشيعي- شيوعي، وسنّي-شيعي، على فصول متناسلة، وبينما كان كنعان يُمهّد لإصلاحات دستورية في نهاية العام 1985، جمع أطراف "الاتفاق الثلاثي" الذي شقّ القوات اللبنانية والمسيحيين عموماً، ورعى كنعان مع "الحرس الثوري" الإيراني بلورة "المقاومة الإسلامية"، قوّة عسكرية وأمنية مُهيمنة، وذراعاً لحزب الله، المنظمة السياسية والأيديولوجية والاجتماعية، ونواة طبقة حاكمة مذهبية، وليس بعيداً ممّا آلت إليه الأمور، أن سمّى أحد الكتاب السوريين النافذين، عبدالله الأحمد، حزب الله "سرايا غازي كنعان"، فشقّت المنظمة الدولة اللبنانية الآتية، يقول شرارة، وأبطلت شرعيّتها وتجانسها، وعزلت الشيعة وكُتلتهم عن المجتمع السياسي اللبناني المزمع، وكان حزب الله وما زال مطيّة السياسة السورية إلى المنظمات الفلسطينية الوطنية والإسلامية، بالإضافة طبعاً للداخل اللبناني.
ثانياً: اللواء عباس إبراهيم...
اللواء إبراهيم هو مدير الأمن العام اللبناني، أي أنّه يشغل أهمّ منصب أمني رسمي في لبنان، ودرجت العادة في السنوات العشر الماضية أن توكل إليه مهمات أمنية سياسية حسّاسة ودقيقة، ربما بسبب التباس موقعه مع مواقع حزب الله الأمنية والسياسية في البلد، وحقّق اللواء نجاحاتٍ باهرة، وإن محدودة، تجلّت في إطلاق راهبات "معلولا" ورهائن "اعزاز" من أيدي الجماعات الإرهابية، وخلال العام الحالي أوكل إليه رئيس الجمهورية ملف التدقيق في بعض الأسماء "المشبوهة" التي تضمّنها مرسوم التّجنيس الصادر عن رئاسة الجمهورية،وقام بالمهمّة، إلاّ أنّ جهوده ضاعت هباءً، فقد نال "المحظيّون" الجنسية اللبنانية رغم أنف المعترضين.
آخر مهمّة أوكلت لللواء إبراهيم كانت محاولة تفكيك عقدة توزير أحد أعضاء اللقاء التشاوري السني، بما يسمح بولادة حكومة جديدة مُتعسّرة منذ حوالي ستّة أشهر، وكاد اللواء يقطف ثمرة جهوده وتخرج الحكومة إلى العلن، لولا أن أُجهضت المحاولة على يد أطرافٍ نُسبت بولائها لرئيس الجمهورية، فانتهت المهمّة "الإبراهيمية" إلى خيبة واضحة وخسرانٍ مبين لللواء إبراهيم والرئاسات الثلاث والبلاد والعباد معاً.
لو كان يملك اللواء إبراهيم جزءاً من عشرة ممّا كان يملكه اللواء الراحل كنعان، من سطوة وهيبة واستيلاء وغلبة، لما كُنّا اليوم لا نزال نبحث عن قابلة جديدة لولادة الحكومة العتيدة، والتي لم يعُد ينفع معها، على ما يبدو، مبضع لواء، ولا رُقية راقٍ، ولا حاو،ٍ أو مُنجّم ممّن سيملأون الشاشات في أيام رأس السنة القادمة.