عَكَسَ النزول الى الشارع في حبّوش وكفررمان من قرى قضاء النبطية مسألتين؛ الأولى ان الخزان الشعبي يحمِّل "المقاومة" كما غيرها من مكوّنات الطبقة السياسية مسؤولية فقره وجوعه وافتقاره الى الحد الأدنى من مستلزمات الصمود، والثانية تسليط الضوء على الذين لم ينزلوا الى الشارع خوفاً من غضب الحزبين الكبيرين المسيطرين على المنطقة، ووصف المتظاهرين لهم بأنهم "شعب جبان".
وفي حين لم يحظ التحرك الجنوبي الا بتغطية عابرة من احدى المحطات التلفزيونية قياساً بتغطية التحرك البيروتي، لاحظ احد المتظاهرين هذا التجاهل بقوله: "لو كنا متحزبين لكانت الكاميرات كلها هنا. لكننا أقلية وسنصبح أكثرية".
وفيما لن يكون مستغرباً ان يُصار الى تصويب البوصلة كما حصل بعد احتجاجات حيّ السلّم قبل عام، وما تلاها من عملية تأديب موضعية، فإن ما قيل قد قيل، وهو يعكس حقيقةً لم يعد يمكن المكابرة في شأنها الى أبد الآبدين. استمرار الأحوال على سوئها، سيبلور أكثر فأكثر الاحتجاجات المعتقلة في حناجر فئة كبيرة من اللبنانيين أريد لهم ان يكونوا اسرى مذهبهم، بحيث يشكلون جداراً منيعاً ضد مَن يتحكم بهذا المذهب. وأريد لهم ان يحمِّلوا مَن يخدم أجندة زعمائهم من الخصوم السياسيين مسؤولية وصول المجتمع اللبناني الى الانهيار، وكأن المؤامرة عليهم دون سواهم لأنهم دون سؤالهم، يشكلون فئة "المحرومين" الذين آن لهم ان ينتفضوا.
يبدو ان الجدار ليس بالمناعة المرتجاة. وكل عدّة الشغل التي عملت على مدار الثواني والدقائق والساعات والأيام والاعوام لتمنع اختراقه، قد تبدو من دون جدوى. فقد اثبتت الاحتجاجات الفالتة ان الجراحة نجحت لكن المريض في طريقه الى الفناء.
الاحتجاجات والصرخات في قرى النبطية لم تكن تختلف في جوهرها عن مثيلاتها في بيروت. اللافت ان غالبية المحتجين في بيروت والجنوب من أبناء المذهب. ويشير فك عقدة لسانهم في معمعة الحماسة وسط الحالة الجماهيرية للتظاهر الملتبسة هويته، ربما، الى ان السحر في طريقة إلى الانقلاب على الساحر.
فمَن قال ان "المقاومة لم تكن لتنتصر لولا الشعب اللبناني والشعب الجنوبي"، أطلق جرس إنذار قد تكمن مؤشرات تأججه الى حين، لكنها ستنفجر في وقت ما، وتبرهن ان "المقاومة من دون الناس أرض محروقة ولا يمكن ان تستمر لأن الملف الداخلي لم يعد يحتمل. وهي ستنطفئ اذا بقي الوضع على حاله".
ان تحمل طفلةٌ فاتورة كهرباء بـ250 الف ليرة لتشير الى حقها في التظاهر، وتقول للمذيعة ان "القوى المسيطرة تشتري الناس بالمال، والامر معروف ولا يحتاج الى برهان"، صورة تتغذى بصرخة غاضبة يقول صاحبها: "اين زعماؤنا، يجوا ينقبروا يجيبوا الكهربا".
التوقف عند هذه الاحتجاجات ليس لأنها تكسر الصورة النمطية لسيطرة "حزب الله" على الشارع الشيعي ليكتفي بهم ويكتشف انهم لا يكتفون به بل يستخدمونه لأهداف أبعد وأوسع، ولكن لأنها تعيد هذا الشارع الى لبنانيته من خلال الهموم التي توحده مع أبناء غيره من الشوارع. فقد قال أحد المتظاهرين "نحن لا نحتاج الى الثنائية الشيعية القوية والمنيعة، لكننا نحتاج الى العدل الاجتماعي".
الواضح ان مقتدرات الدولة المنهوبة لم تعد تكفي لإسكات الجميع، وان لا تمويل يمكن الاعتماد عليه لرشوة الذين حسبوا ان استبدال الدولة بالدويلة ممكن، وان الولاء للزعيم أهم من الولاء للمؤسسات والدستور. الاهم ان الحزب، مثله مثل غيره من مكونات السلطة، يبيع ويشتري لتثبيت نفوذه بعدما تمكن من الإمساك بحبال اللعبة السياسية ليحركها كما يشاء، مستقوياً بسلاحه وبإرساء أسسِ ما حسب انه طاعة عمياء له في بيئته. والنتيجة: "جرّونا الى الانتخابات كالخراف. ونحن انتخبناهم رغماً عنا لأننا نريد البقاء الى قرانا"، و"انتخبت محمد رعد. اعطيته صوتي التفضيلي. عندي 3 أولاد وعاطل عن العمل منذ سنتين، لأن لا واسطة لديّ. نحن شعب مقاوم. عيب عليهم".
قد يكون التحرك مشبوهاً او مدروساً لغايةٍ ما، على ما تردد، وقد يكون عفوياً بمبادراتٍ فردية عبر وسائل التواصل الاجتماعي. لا يهمّ. لأن المهم قاله احد المتظاهرين معتبرا ان "الحال لا يمشي اذا بقي البلد طائفيا". الاهم ان ليس كل ما يُرسَم من خطط يأتي تطبيقه على الأرض انعكاساً للمشروع المطلوب. فلعبة الشارع غير مضمونة النتائج. والمتظاهرون في الجنوب قالوا انهم فقدوا كل مقوّمات الصمود حياتياً ولم يبق لديهم الا "شوية كرامة".