ثمّة تغيّر مباغت في المزاج المسيحي تجاه حزب الله. الرأي السياسي المختزل من قبل ساسة المسيحيين، قابل للتبدّل كل ما هبّت رياح جديدة. تنبع قراراتهم وتندفع تعبيراتهم ارتكازاً على خوف وجودي سحيق، وعلى غريزة الحفاظ على المكتسبات. هذه المكتسبات، يُفترض بها أن تكون غالباً لصالح المؤسسات المسيحية، كنسية وسياسية. وهذه ثابتة عرفتها كل المراحل المتقلّبة في الأحوال اللبنانية، على مدى عقود كثيرة. ينيط المسيحيون بأنفسهم دور حرّاس الدولة.. وكَسَبتها الأساسيين. كما أنهم يحرصون على حمايتها، بالموازنة ما بين القوى المتناقضة محلياً وإقليمياً، تحت سقف المجتمع الدولي والرعاية الدولية، تارة تحت سقف الأمم المتحدة، وطوراً تحت جناح دولة مؤثرة هنا أو هناك.
الحقوق والمكتسبات
ينحاز المجتمع المسيحي، بداهة، ويعتصم بالخطاب السياسي لزعمائه، وحكماً بما تنطق به الكنيسة. هذا، على الرغم من مراحل عديدة شهدت خلافات بين الكنيسة والساسة. تجربة الرئيس الراحل كميل شمعون مع البطريركية المارونية، تكررت مع تجربة الرئيس ميشال عون. كان الرجلان يريان نفسيهما فوق الكنيسة، وعليها الإلتحاق بهما. لكن التكامل في رؤى الطرفين، أي السياسيين ورجال الدين، يمكن معاينته دوماً في لحظة تغيير أو اضطراب أو حين وقوع تحول مرتقب. هذا التكامل يقترب من التحقق في هكذا مرحلة "مصيرية". فالهم الأساسي للكنيسة هو "حماية حقوق الرعية ومكتسباتها" بدعاية "الحفاظ على وجودهم". وهي مهمة من المفترض أن تكون ملقاة على عاتق الدولة وفق مفهوم المواطنة. لكن في ظل إنعدام هذا المفهوم، فمنطق الرعايا "الرعائي"، هو الذي يتحكّم بالسلوك السياسي وفحواه، وينسحب تلقائياً على القادة والأحزاب.
من هنا، يقوم ادعاء "التيار الوطني الحرّ"، والوزير جبران باسيل، أنهما حفظة حقوق المسيحيين ومكتسباتهم. فهذا الادعاء هو كل شرعيتهما السياسية.
وما يدلل على التكامل في رؤية الكنيسة والسياسة في هذه المرحلة، هو المواقف المتقاربة التي يتّخذها البطريرك بشارة الراعي وكل من رئيس الجمهورية ووزير الخارجية. ففي الزيارة الأخيرة للراعي إلى بعبدا، خرج معلناً أن ثمة دوافع خفية تعرقل إنطلاقة العهد وتشكيل الحكومة. ومَنْ استقى معلومات عن حقيقة التصريح، يشير إلى أن الراعي بنى موقفه على معلومات حصل عليها خلال جولته الخارجية، وتطابقت مع وجهة نظر رئيس الجمهورية. وهي تحمّل حزب الله المسؤولية، الذي لديه أهداف أبعد من لبنان، في عملية تشكيل الحكومة. وهذه النظرة يعززها عون وباسيل مجدداً من خلال المواقف التي يطلقانها، وتصيب الحزب بسهامها، ولا أحد غيره. هكذا، بعد فشل تسوية توزير جواد عدرا، طفى الخلاف بين الطرفين على السطح.
العودة إلى الطائف و"أطماع" أخرى
يوم الأحد كانت الأخبار تضجّ بوقائع الخلاف بين باسيل وحزب الله، على مسألة الثلث المعطّل، وعلى من سيمسك بوجهة البلد ومفاتيح السياسة والحكومة فيه. ويوم الإثنين في رسالة الميلاد، كان البطريرك الراعي يتحدث عن عائق غير معلن لتشكيل الحكومة، ويوجه رسالة تتضمن ضرورة الحفاظ على اتفاق الطائف وتطبيقه. وهذه مقولة تنطلق من الحرص على مبدأ المناصفة. والبطريرك، ما كان بحاجة للتذكير بها، لو لم يتحسس نيّة طرح المثالثة في الممارسة، على الأقل، وليس بالضرورة من خلال اقتراح تعديل دستوري أو المطالبة بتغيير النظام. لكنها ممارسة قد تؤسس لذلك في المرحلة اللاحقة.
يحاول الراعي، من موقعه، الدفاع عن موقف رئيس الجمهورية وحصة المسيحيين في النظام. لكن أيضاً، في صلب هذا الموقف، ثمة مواقف أخرى تشير إلى تشابه مع طروحات التيار الوطني الحرّ ومطالبه، الذي يطرح دوماً شعار حماية المسيحيين وحقوقهم، وما يضمره من مطالب إضافية لتحقيق المكاسب السياسية لتياره. ففي معرض تشديده على حماية المسيحيين سياسياً، يعتبر الراعي أنه لا يحق للدولة والسلطة حجب مساندتهما للمؤسسات الكنسية، التي تشارك الدولة في المسؤولية الجسيمة، وتحمل عنها قسطاً وافراً من هذه الواجبات، لصالح توفير العيش الكريم للمواطن. وكأن البطريرك يطالب بدعم مالي واقتصادي وإداري للمؤسسات الدينية المسيحية!
الأمر نفسه ينطبق على باسيل، الذي يعتبر أن معركته، لنيل الأحد عشر وزيراً في الحكومة، تهدف إلى تعزيز "المناعة السياسية" المقرِّرة للمسيحيين. لكن تحت سقف هذا الشعار، وعلى منوال ما أوحى به الراعي، ثمة مطالب أخرى، كالحصول على وزارات معينة وحقائب بعينها، حيوية و"دسمة"، وفق اللغة اللبنانية.
الفيدرالية والتسلح
الإنعكاس الأوضح للتقارب الكنسي والسياسي في هذه المرحلة، هو في الكلام الذي أصبح معروفاً وشائعاً بين العامة، ويتداوله باسيل في مجالس خاصة، ويصيب حزب الله أيضاً، على نحو متطرف. إذ لا تخلو مواقفه من التلويح بطرح الفيدرالية، أو حتى التسلّح: "ليبقى الشارع المسيحي قوياً ومنيعاً وغير قابل للإبتزاز من أي طرف"، بالإضافة إلى رفض تمنين حزب الله له ولعمّه بالوصول إلى سدة الرئاسة، معتقداً أن عون وصل بقوته الذاتية و"بفعل خيارات شعبه"!
موقف باسيل هذا لا يختلف عن موقف الراعي، الذي أطلقه بأسلوبه الخاص، ويتلخّص بجملة قالها في رسالة الميلاد أيضاً: "وما القول عن الخوف من حرب جديدة مع إسرائيل، والدولة لا تمتلك أحادية السلطة والسلاح، لكي تخرج لبنان من ساحة الصراع في المنطقة؟ فميثاقياً ودستورياً ودولياً لا تستطيع الدولة اللبنانية التخلي عن دورها في تنفيذ القرارات والسياسات الدولية وبخاصة النأي بالنفس وتطبيق القرار 1701. ولا يحق لها التنازل لأي طرف عن حقها وواجبها بالقرار الأوحد في قضية الأمن القومي اللبناني وفي السياسة الخارجية والعلاقات الدولية".
موقف الكنيسة واضح مجدداً برفض السلاح غير الشرعي، وهذا يتطابق مع غاية عون، الراغب في الإنسجام مع نظرية "الرئيس القوي" التي يروّجها ويتبناها. وعلى أي حال، هذه المؤشرات توضح التغيّر في المزاج المسيحي، الذي يعبّر عن الإستياء من الإستئثار في الحكم، وينطلق من رغبة الإنتفاض لتكريس صورة الرئيس القوي.
منطق المعارضة.. منطق السلطة
بلا شك أن هذه الطروحات، تعني أن ثمة تغييراً لن يقتصر على المزاج المسيحي العام فقط، بل على نهج "التيار الوطني الحر" وحكماً على سياسة الرئيس عون في العلاقة مع حزب الله. فالتيار وعون أثناء وجودهما في "المعارضة" كانا شريكا الحزب في التعطيل، لكن بوجودهما في السلطة يضعهما على تناقض مع منطق حزب الله. فموقع تمثيل السلطة والدولة يتضارب منطقياً مع موقع حزب الله. حالة الإلتقاء بين حزب الله والتيار الوطني الحرّ في حقبة 2006، تختلف عن واقع اليوم. وإذا كان الصراع يتلبس طابعاً طائفياً، إلا أن غايته تبقى سياسية.
حتى التكامل في وجهات النظر حول الوضع السوري ومواجهة الثورة ومعاداة أهلها، اختلف بين مرحلتين، مرحلة ما قبل رئاسة عون وما بعدها، حتى وإن كان الهوى "الأقلوي" معادياً للسوريين كما الحزب.
إذاً، غاية الرئيس المسيحي هنا، أهمّ من أي اعتبار آخر، أي حماية الموقع والمكتسبات. وباسيل الطامح أيضاً للرئاسة، يجد نفسه راهناً في حال أكثر ارتباكاً، هو الذي يعلم أنه غير قادر على مواجهة الحزب فعلياً، إن كان راغباً في تحقيق حلمه. وإذا كان الآن يغامر ويشذّ عن القاعدة فلأنه يراهن على حاجة الجميع إليه.