في الوقت الذي يعزز فيه النظام السوري سيطرته بعد سنواتٍ من الحرب الأهلية، يواصل جيش الرئيس بشار الأسد إعدام السجناء السياسيين بوتيرةٍ أسرع وأشد قسوة، في ظل تسريع القضاة العسكريين وتيرة إصدار أحكام الإعدام، بحسب ما ذكره ناجون من سجن صيدنايا الذي يُعد أسوأ السجون سمعة في سوريا .
تحدَّث أكثر من 20 سوريّاً ممَّن أُفرِج عنهم مؤخراً من سجن صيدنايا العسكري في العاصمة السورية دمشق، لصحيفة The Washington Post الأميركية، عن حملةٍ حكومية لإعدام جماعاتٍ من السجناء السياسيين. وقال السجناء السابقون في مقابلاتٍ أُجريت معهم، إنَّ السجناء يُنقلون من السجون الأخرى بجميع أنحاء سوريا للانضمام إلى المعتقلين المحكوم عليهم بالإعدام في قبو صيدنايا، ثم يجري إعدامهم شنقاً في جنح الظلام.
التخلص من اكتظاظ سجن صيدنايا بإعدامات جماعية للسجناء في سوريا
لكن على الرغم من عمليات النقل هذه، توضح الصحيفة الأميركية، فإنَّ عدد سجناء زنزانات صيدنايا أسوأ السجون سمعة في سوريا التي كانت مكتظة يوماً ما -والتي كانت تعجُّ في ذروتها بسجناء يتراوح عددهم بين 10 آلاف و20 ألفاً- قد تضاءل كثيراً، بسبب عمليات الإعدام التي لا تتوقف، لدرجة أنَّ قسماً واحداً على الأقل من السجن صار شبه خاوٍ تماماً، حسبما ذكر السجناء السابقون.
حتى إنَّ بعض هؤلاء السجناء السابقين أنفسهم كان محكوماً عليه بالإعدام، ولم يهربوا من هذا المصير إلا بعدما دفع أقرباؤهم عشرات الآلاف من الدولارات لتأمين حريتهم. ووصف بعضهم المحادثات التي سمعوها مصادفةً بين الحراس بشأن إعدام السجناء. وتحدث جميعهم بشرط عدم الكشف عن أسمائهم بالكامل؛ خوفاً على سلامة أُسرهم.
وقال سجينان منهم كانا قد مرَّا عبر محكمة دمشق الميدانية، الموجودة داخل مقر الشرطة العسكرية بالعاصمة، إنَّ معدلات أحكام الإعدام ارتفعت على مرِّ العام الماضي (2017)، مع تشدُّد مواقف مسؤولي المحكمة.
وعُرِضَ كلا الرجلين مرتين على أحد القضاة في هذه المحكمة العسكرية الميدانية: مرةٌ في وقتٍ سابق من الحرب، ومرة أخرى بالعام الجاري (2018)، وتمكنا من مقارنة الطريقة التي تعمل بها هذه المحكمة السرية.
وقال أحدهما: «لم يكن هناك مجالٌ للتساهل في زيارتي الثانية، إذ حُكِم على جميع الأشخاص الذين كانوا موجودين في تلك الغرفة تقريباً بالإعدام. كانوا يقرأون الأحكام بصوتٍ عالٍ».
ومنهم من يموت حتى قبل الوصول إلى المشنقة
وقال السجناء السابقون إنَّ العديد من السُجناء يموتون حتى قبل الوصول إلى المشنقة، بسبب سوء التغذية أو الإهمال الطبي أو الاعتداء الجسدي، وغالباً ما يموتون إثر تعرضهم للتعذيب النفسي في أسوأ السجون سمعة في سوريا .
وقال سجينٌ سابق -يُدعى أبو حسين (30 عاماً)، وهو ميكانيكي من غرب محافظة حمص- إنَّ الحراس أدخلوا أنبوباً معدنياً بالقوة في حلق أحد زملائه بالزنزانة، كان من ضاحية داريا في دمشق. وقال: «علَّقوه على الحائط بذلك الأنبوب ثم تركوه ليموت! وظلَّت جثته ملقاةً بيننا طيلة الليل». بينما وصف سجينٌ سابق آخر كيف أُجبِرَ سجناء في زنزانته على ركل رجلٍ من جنوب محافظة درعا حتى الموت.
لم يردَّ النظام السوري على طلبات التعليق على هذا المقال. ويُذكَر أنَّه لم يعترف قَط بإعدام السجناء، ولم يعلن كذلك أرقام عمليات الإعدام. ولا تتوافر إحصاءاتٌ مستقلة.
وهو ما أكدته صور ملتقطة عبر الأقمار الاصطناعية
وتُظهر صورٌ ملتقطة عبر الأقمار الاصطناعية لأراضي سجن صيدنايا في مارس/آذار 2018، تراكم العشرات من الأجسام المظلمة، التي يقول خبراء إنَّها متفقةٌ مع الأجساد البشرية. وحصلت صحيفة The Washington Post الأميركية على تلك الصور، وطلبت من خبراء الطب الشرعي مراجعتها.
وقال إسحاق بيكر، مدير تحليل الصور في برنامج Signal Program on Human Security and Technology التابع لمبادرة هارفارد للعمل الإنساني: «تُظهِر الصور التي التُقطِت للسجن من 1 مارس/آذار إلى 4 مارس/آذار، وجود أجسام مظلمة طويلة يشبه بعضها بعضاً، طولها من 5 إلى 6 أقدام تقريباً (1.52 إلى 1.83 متر).
ومع أنَّ التحليلات والبيانات المتاحة لا تثبت روايات شهود العيان عن عمليات الإعدام الجماعي في أسوأ السجون سمعة في سوريا ، فإنَّها تعضدها وتتفق معها».
وتحدث سجينان سابقان كانا محتجزين في زنزاناتٍ أقرب إلى غرفة الحراسة بجناح زنزاناتهم، عن محادثاتٍ سمعاها مصادفةً بين سجَّانيهما بشأن عمليات إعدام في أوائل مارس/آذار 2018، إذ قال أحدهما: «كانوا يتحدثون عن مجموعةٍ من جثث السجناء نُقِلَت إلى الفناء».
وتُظهِر صورٌ أخرى ملتقطة عبر الأقمار الاصطناعية لأراضٍ عسكرية قرب دمشق -ذكرت منظمة العفو الدولية سابقاً أنَّها موقعٌ لمقابر جماعية- زيادةً في عدد حفر الدفن وشواهد القبور بمقبرة واحدةٍ على الأقل هناك منذ مطلع العام الجاري (2018).
وقال منشقون كانوا يعملون في نظام السجن العسكري، إنَّ هذه المنطقة التي تقع جنوب دمشق هي المقبرة الجماعية المحتملة لسجناء صيدنايا.
بينما ظهرت عشراتٌ من حُفر الدفن وشواهد القبور الجديدة منذ فصل الشتاء، في المقبرة الواقعة على الطريق المتجه جنوباً من دمشق.
«الضرب تعذيب والصمت أيضاً تعذيب» في أسوأ السجون سمعة في سوريا
بعد 7 سنوات من الحرب، ما زال أكثر من 100 ألف معتقل سوري في عداد المفقودين. ووفقاً للأمم المتحدة وبعض منظمات حقوق الإنسان، ربما يكون الآلاف منهم، إن لم يكن عشرات الآلاف، قد ماتوا.
ومع أنَّ جميع أطراف النزاع اعتقلت أشخاصاً وأخفتهم قسرياً وقتلتهم، تُقدِّر الشبكة السورية لحقوق الإنسان أنَّ ما يصل إلى 90% من إجمالي المعتقلين بسوريا محتجزون في شبكةٍ من سجون النظام، حيث يُستخدم التعذيب والتجويع وأشكالٌ أخرى من الإهمال القاتل استخداماً ممنهجاً من أجل القتل. وفي إحدى الفترات، كان سجن صيدنايا وحده يضم نحو 20 ألف سجين، وفقاً لمنظمة العفو الدولية.
وقد أجرت صحيفة The Washington Post الأميركية، بهدف نشر هذا المقال، مقابلاتٍ مع 27 سجيناً سابقاً أُفرِج عنهم مؤخراً. يعيش معظمهم الآن بتركيا، ولكن بعضهم يعيش أيضاً في سوريا ولبنان والعراق وألمانيا.
وقد جرى التعرُّف عليهم عن طريق سجناء سابقين آخرين في أسوأ السجون سمعة في سوريا ومراقبين معنيِّين بحقوق الإنسان، وأُجريت اللقاءات معهم في مدنٍ تركية مثل إسطنبول وغازي عنتاب وأنطاكية وسيفريك، وعبر الهاتف.
ويقول السجناء السابقون إنَّ الحراس كانوا يفرضون صمتاً شبه تام بين السجناء الذين كانوا ينامون تحت بطاطين مليئة بحشرات السوس والقراد على أرضياتٍ حجرية لزجةٍ، بسببب سوائل جسدية. وقال سجينٌ سابق يُدعى محمد ويبلغ من العمر 28 عاماً: «عندما تكون في صيدنايا، لا يمكنك التفكير في أي شيء، بل لا يمكنك حتى التحدث إلى نفسك. فالضرب تعذيب، والصمت أيضاً تعذيب».
وشبَّه زملاءه بالزنزانة، الذين ظلَّوا في السجن بعد خروجه، بأنَّهم «حيوانات محبوسة». وقال: «كانت معنويات بعضهم مُحطَّمة تماماً، في حين أُصيب البعض الآخر بالهوس والجنون. ربما يكون الموت رحمةً لهم، فهو الشيء الوحيد الذي ينتظرونه».
غير أن هناك من ينجو من مشنقة الإعدام
وعلى الرغم من اختلاف أيام تنفيذ الإعدام، قال سجناء سجن صيدنايا السابقون إنَّ الحُرَّاس غالباً ما كانوا يتجولون بين الزنزانات بعد ظهر يوم الثلاثاء، مُنادين على أسماء الأشخاص الذين سيُعدَمون.
وقال أحد السجناء السابقين: «كنت تعرف أنهم قادمون عندما يضربون الباب المعدني بعُنف ويبدأون الصراخ في وجوهنا للاصطفاف. فكان الجميع يتدافع نحو الجدار ويقف قدر استطاعته. وبعدما يرحل الحُرَّاس، تشكر الله لأنَّهم لم يسحبوك».
وهذا بالضبط ما حدث مع محمد، إذ اقتادوه خارج زنزانته بعنف مع تغطية وجهه بقميصه إلى الطابق السفلي حيث ينتظر السجناء تنفيذ حكم الإعدام، وكانوا يضربونه عندما كان يتعثر على السُّلَّم. وقال إنَّه يتذكر أنَّه كان محاطاً بصراخ سجناء آخرين.
ودُفِع مع غيره من السجناء إلى زنزانةٍ ضيقة وجُرِّدوا من ملابسهم قبل أن يتركهم الحراس، ويغلقوا الباب المعدني خلفهم بعنف. وظل السجناء قابعين هناك أسبوعاً.
ثم كُدِّس المزيد من السجناء في زنزانةٍ مجاورة. وكان من بينهم حسن (29 عاماً)، وهو مُزارع نُقل إلى سجن صيدنايا من سجنٍ مدني بمحافظة السويداء الجنوبية. وجلس الرجال طيلة الليل ينتظرون الموت، متحدثين بهمساتٍ خافتة، وتبادلوا قصص حياتهم وندمهم.
وقال حسن: «كان الظلام دامساً هناك، لكنَّ ما استطعت رؤيته من وجوههم هو رعبٌ خالص. وفي النهاية، توقف الجميع عن الكلام».
ولكن عندما جاء الحراس ليأخذوا السجناء الذين سيعدمونهم، لم يُنادوا على اسمَي محمد ولا حسن. وعرف الرجلان لاحقاً أنَّ عائلاتهما دفعت عشرات الآلاف من الدولارات إلى وسيطٍ مرتبط بالنظام، وهو جزءٌ من شبكةٍ ظهرت في أثناء الحرب، لتزويد العائلات بأخبار عن أقربائهم المحتجزين، ومساعدتهم ببعض الأحيان في إطلاق سراحهم مقابل مبالغ من المال.
زيادة مفاجئة في إخطارات الوفاة
تأتي الزيادة المفاجئة في أحكام الإعدام، بالوقت الذي تجري فيه مناقشة مصير المحتجزين السوريين الذين اعتُقِلوا في وقت الحرب، ضمن محادثات السلام بالعاصمة الكازاخستانية أستانا، إذ يحاول مسؤولون من روسيا وتركيا وإيران التفاوض على إنهاء الصراع، في ظل تقهقر قوات المعارضة السورية وانحصارها في أقصى الشمال الغربي للبلاد وهزيمتها هزيمةً شبه كاملة.
وفي أثناء ذلك، يُصدِر النظام السوري إخطاراتٍ بوفاة سجناء سياسيين بُمعدِّل غير مسبوق. وبدأت هذه الممارسة تتسارع في يناير/كانون الثاني 2018، ويبدو أنَّها تؤكد بالعديد من الحالات، أنَّ المحتجزين في أسوأ السجون سمعة في سوريا ماتوا بالفعل في سنوات الصراع الأولى.
وفي تقريرٍ صدر الشهر الماضي (نوفمبر/تشرين الثاني 2018)، قالت لجنة الأمم المتحدة التي شُكِّلت للتحقيق في جرائم الحرب بسوريا، إنَّ إصدار هذا الكم الهائل من إخطارات الوفاة يعد بمثابة اعترافٍ من النظام بأنَّه مسؤولٌ عن وفاة سجناء كان ينفي احتجازهم على مرِّ سنوات.
وقال هاني مجلِّي، أحد المحققين الرئيسين في لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن سوريا، متحدثاً عن إخطارات الوفاة: «بالتأكيد، نعتقد أنَّه لا بد من وجود رابط بين هذا الأمر وبدء الدولة في الانتقال إلى ما بعد الصراع، وشعور مسؤولي النظام بأنَّ وجودهم لم يعُد مهدَّداً بشكل كامل، وأنَّ عليهم التطلع إلى المستقبل في كيفية التعامل مع السكان عموماً. الناس يطالبون الآن بمزيد من المعلومات عما حدث ولماذا حدث وأين. أين الجثث؟!».
اعترافات تحت التعذيب وغياب المحامين
وذكر السجناء السابقون في أسوأ السجون سمعة في سوريا في المقابلات تفاصيل نادرة عن عمل المحكمة الميدانية العسكرية، حيث يظهر المتهمون دون محامين، وغالباً ما تكون أوراق الاتهام مُحمَّلةً باعترافاتٍ مأخوذة تحت التعذيب. ويصل المعتقلون إلى المحكمة مكبَّلين ومعصوبي الأعين. ونادراً ما تستغرق محاكماتهم أكثر من 3 دقائق.
وفي بعض الحالات، استندت عمليات الإعدام التي نُفِّذت مؤخراً في سجن صيدنايا، إلى أحكامٍ صدرت قبل سنوات. وما تغيَّر هو تسريع وتيرة إصدار أحكامٍ جديدة، حسبما ذكر سجناء سابقون.
وبمجرد شنق السجناء، عادةً ما تُنقَل جثثهم مباشرةً من غرفة الإعدام إلى شاحنة أو سيارة منتظرة في الخارج، ثم تُنقل إلى مستشفىً عسكري لتسجيلها فيه، قبل دفنها بالمقابر الجماعية الموجودة في منطقةٍ عسكرية، وفقاً لما ذكرته منظمة العفو الدولية.
كان محمد وحسن من بين مَن نجوا من هذا المصير. وبعد سنواتٍ ممَّا وصفاه بالتعذيب والإهمال الشديد، اللذين تركا ندوباً ومشكلاتٍ صحية حادة لديهما، نجحا في دخول تركيا عبر الحدود بوقتٍ سابق من العام الجاري (2018).
ولكن بعد عبور حسن من الأراضي الواقعة تحت سيطرة النظام إلى أحد المعاقل الأخيرة للمعارضة بالقرب من الحدود التركية، أخطأ المهربون الذين يرشدون مجموعته ووجَّهوها إلى حقل ألغام، فتعرَّضت ساقه للتفجير، وما زال يصرخ في أثناء نومه.
وقال: «لا يمكن نسيان ذكريات صيدنايا بسهولة. لقد مات معظم زملائي الذين كانوا معي بالزنزانة. وما زلت أُفكِّر في الأشخاص الذين ما زالوا قابعين هناك».