صار الملفّ الحكومي محيِّراً؛ فجأة ترتسم ابتسامة تفاؤل واسعة على وجه البلد كله، ويشرع كثيرون في تحضير «المغلي» لاستقبال المولود، ولكن سرعان ما تتحوّل بقدرة قادر الى «عَبْسة» خريفية تشاؤمية، يطير معها «المغلي»، ويغلي البلد في وقائع وأجواء تمطرُ إراداتٍ متصادمة، وشهواتٍ بلا حدود، وأفواهٍ مفتوحة، واوراقاً مبعثرة، وأداءً يحكمه سوء نيّة، او سوء تصرّف، أو سوءُ تقدير، أو تشاطر، أو تذاكي، أو استغباء، او استغفال، او استعلاء، وربما كل هذه العوامل مجتمعة مع بعضها البعض.
وفي الخلاصة طارت الحكومة!
قيل إنّ بضعة أمتار تفصل عن ولادة الحكومة، لكنّ هذه الأمتار تحوّلت بين ليلة وضحاها الى كيلومترات، فطيران الحكومة هذه المرة، وكما خلصت اليه تطورات الملف الحكومي الاخيرة، لا يبدو أنّ تحليقه موقت الى ما بعد عيد الميلاد، بل على الاكيد صار أبعد من رأس السنة بكثير؛ هذا هو لسان حال كل الطبّاخين.
في القصر الجمهوري، هناك انقلابٌ في الصورة، قبل يومين كان رئيس الجمهورية في اعلى درجات تفاؤله واطلق وعده الأخير: «ولادة الحكومة اسرع ممّا هو متوقع». لكنّ الصورة نُسِفَت، وأزاحت التفاؤل علامات استفهام عنونت البحث الرئاسي المتجدّد عمّا أوجد هذا المناخ، وهويّة قوّة الدفع التي ألقت بالحكومة المنتظرة ما قبل المربّع الخلافي الأول.
وفي الخلاصة مع هذا المستجد، لا كلامَ رئاسياًَ قادراً على ترقيع أو توضيح الوعد الرئاسي بالحكومة السريعة!
وفي «بيت الوسط»، شعور مكفهِّر لدى الرئيس المكلف، فقد وصلت اللقمة الحكومية الى الفم، ولكنها سُحِبّت ورُميت مجدداً الى الوراء، وأعادت أزمة التأليف الى بداياتها. عقد لقاء غير مشجّع مع الرئيس نبيه بري، دقائقه العشر، كانت كافية لخلق مناخ متوتر بينهما. وفي الخلاصة اعتذر عن «ريسيتال بعبدا» فليس في الجعبة الحريرية ما يقال.
وأما خلاصة الجوجلة في «بيت الوسط» أنها لا ترى أفقاً مفتوحاً، والرئيس المكلف لا يستطيع أن يقول إنّ حكومته ستولد في المدى المنظور؛ لا بعد اسبوع او شهر او شهرين وربما في مدى بعيد أبعد من ذلك بكثير. ولذلك آثر أن يعتصم بالصمت الاحتجاجي على ما آلت اليه الامور.
وأما في عين التينة، فكان بري ينتظر اللحظة التي يتوجّه فيها الى اللبنانيين بقوله: «مبروك الحكومة»، كان ينتظر أن تضرب الملف الحكومي نسائم ربيعية لطيفة تعجّل بمخاض الولادة، لكن فجأة يضرب هذا الملف هواء أصفر أسقط كل اوراق التفاؤل وفرض على رئيس المجلس سحب مقولة «الفول» و«المكيول» من التداول وركنها على الرف، لم يعد لدى رئيس المجلس ما يقال في هذا المجال، سوى بضع كلمات تدرج في خانة «ما قلّ ودلّ»، يشكّل منها رئيس المجلس جملة قصيرة يختضر فيها ما آل اليه ملفّ التأليف: «كل حكومة وأنتم بخير»!
الاجواء الحكومية المسدودة هذه، تعكس حقيقة أنّ كل الآمال التي عُلّقت على ولادة وشيكة للحكومة قد تبخّرت، ومعنى ذلك أنّ البلد دخل مجدّداً في رحلة انتظار طويلة لا سقفَ زمنياً لها.
يقول بري: «لطالما قلنا لهم خيرُ البرِّ عاجلُه، وسعينا لأن تولد الحكومة في عيد الفطر، لكنهم لم يسمعوا منا، لقد اضاعوا فرصة العمر، قالوا إنهم ينتظرون فقط اسماء وزراء «حزب الله»، وصارت الامور اكثر من ايجابية وانتظرنا، ففاجأونا بأمور كانوا يحاولون تمريرها من تحت الطاولة، وكذلك إعادة طرح امور سبق أن حسمناها واتفقنا عليها منذ فترة طويلة، «الأمور هيك ما بتمشي».
يستبطن كلام بري هذا تأكيداً بأنّ الملف الحكومي قد تأخّر «كما قلت، إذا أرادوا أن يحلّوا هذه المشكلة، ففي امكانهم ذلك في اقل من 24 ساعة، أما إذا أرادوا أن يبقوا على هذا المنحى فبالتأكيد لن يصلوا الى أيّ نتيجة».
«كانت كل هذه القصة» يضيف بري «محلولةً ومنتهيةً، قالوا لم يتبقَّ امامنا سوى مسألة واحدة فقط، وهي اعطونا اسماء وزراء «حزب الله» لنعلن الحكومة، ولكن «شو عدا عما بدا» لكي يعودوا الى فتح ملف الحقائب الوزارية، والأنكى هذا الفتح يأتي بطريقة انهم لا يريدون مقاربة حصصهم، بل يريدون مقاربة حصص اطراف بعينها، أما لماذا، فلا نعرف. (حصة «حزب الله»، حصة وليد جنبلاط، وحصة كتلة التنمية والتحرير، وحصة المردة).
يقال هنا الحريري وفي لقاء الدقائق العشر، مع بري فاتحه بأمر مبادلة بعض الحقائب، (بما يفيد تيار المستقبل وتكتل لبنان القوي)، فكان ردّ رئيس المجلس بما مفاده: اتريدون أن تتشكل حكومة أم لا، هذا الامر لا يسهّل تشكيلها ابدا بل يعطّلها، وعلى حدِّ علمنا، هذا الامر سبق وحسمناه فلماذا تعودون اليه الآن، كنا «ناطرينكن تْرَكّْبُوا «بروميير» وتقلّعوا بالحكومة، لكن يبدو انكم عم تْرَكّْبُوا اوناريير»، واذا اصرّيتم على أن تعودوا «اوناريير» وتعودوا الى طرح موضوع الحقائب، فلا مانع لدينا، اذ في هذه الحالة نحن حقنا أن نحصل على حصة اكبر من حصتنا الحالية، يعني بيطلعنا 7 او 8 وزراء». وانتهى اللقاء هنا وغادر الحريري عين التينة من دون أن يتمكّن من إقناع بري بالعودة الى ملف الحقائب.
كرة تأخير تأليف الحكومة في ملعب مَن؟
في عين التينة تأكيد بأنّ هذه الكرة هي في ملعب مَن يعيد فتح بازار الحقائب من جديد، وايضاً في ملعب مَن سعى الى مصادرة «ممثل» اللقاء التشاوري في الحكومة. وهدم كل ما بناه هذا اللقاء لإثبات حضوره وحقه في التمثيل في الحكومة إن مباشرة او عبر شخص يسمّيه ويمثله حصراً، بمعنى أنّ مَن يختار اللقاء التشاوري، يكون نسخة طبق الاصل عنه، وممثلاً له قلباً وقالباً، وليس أن يشكّل اللقاء، كما سعى البعض، لأن يكون مجرّد جسر فقط لعبور شخصية تكون تابعة له وبعيدة عن اللقاء. وهذا ما حصل بالفعل مع جواد عدرا قبل أن يسحب اللقاء تسميته كممثل له، بعدما ثبت له «أنّ عينه على اللقاء وأما قلبه فمع جبران باسيل وملتزم معه منذ ما يزيد على الشهر».
ربما لو نجحت محاولة إدخال جواد عدرا الى الحكومة عضواً في الحصة الرئاسية المشتركة مع حصة تكتل لبنان القوي، وبفيزا دخول يمنحها له اللقاء التشاوري، لكانت سُدّدت لكمة كبرى الى اللقاء التشاوري بالدرجة الأولى، وايضاً الى بري و«حزب الله»، ولكانت فُتحت مشكلة كبيرة على هذا الخط.
الّا «أنّ الله لطف»، كما قال بري، فقد كادوا أن يمرّروها، وكنا اكلنا الضرب، وبالتالي الخير في ما وقع، الآن صار لا بد من القول الصريح والنهائي والملزم: مَن سيمثل اللقاء التشاوري، يختاره اللقاء حصراًَ، ويمثله حصراً، يعني يكون نسخة طبق الاصل عنه، وأنا من جهتي اعود واؤكّد بأني أقبل مَن يقبل به الللقاء التشاوري وأرفض مَن يرفضه اللقاء.
المثير في هذا الامر، هو أنّ الرئيس بري استفسر الرئيس المكلف في لقائهما الاخير حول ما استجدّ في قضية عدرا، فأوضح أن لا علاقة له بهذه المسألة من قريب أو بعيد. كان هذا الجواب مستغرَباً من قبل رئيس المجلس.
يبقى أنّ سؤالاًَ طرح على بري: هل ثمّة عامل خارجي ضغط لتأخير الحكومة؟
اجاب: في موضوع الحقائب لا أعتقد أنّ هناك أيَّ عامل خارجي، أما بالنسبة الى موضوع اللقاء التشاوري، فأعتقد «إنّو في شي من برّا حولها».