أشار البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في رسالة وججها إلى اللبنانيين بمناسبة عيد الميلاد إلى ان "الكنيسة المعنيّة بالإنسان من كلّ جوانبه وبخير المجتمع، تحمل قسطًا وافرًا من صنع السّلام بمحبّتها الرّاعويّة. فروحيًّا، تبني الجماعة على أساس الإيمان والرّجاء والمحبّة، وتتعهّد نقل كلمة الله معلّمة الحقيقة بالكرازة والتّعليم، وتُعنى بتقديس النّفوس عبر توزيع نعمة الأسرار. واجتماعيًّا، تُنشئ مؤسّسات خيريّة، ومدارس، وجامعات، ومستشفيات، ومستوصفات، ومراكز متخصّصة لذوي الاحتياجات من أطفال ومسنّين ومعوَّقين ويتامى، وتسخو في الحفاظ عليها وتطويرها من أجل خدمة أوفر وأشمل. وإنمائيًّا، تساهم في النموّ الإقتصاديّ بتفعيل ممتلكاتها، وتوفير فرص عمل في مؤسّساتها لأكثر عدد ممكن من المواطنين".
ولفت إلى ان "الكنيسة بكلّ ذلك تصنع السّلام المؤتمنة عليه من المسيح مؤسّسها. فكما أنّه بميلاده إنسانًا جعل الإنسان، كلّ إنسان، طريقه الأساسيّ، كذلك الكنيسة تواصل سلوك هذا الطّريق برسالتها الرّوحيّة والاجتماعيّة والانمائيّة. فتعتني بالإنسان في كلّ مكوّنات حياته: "تقف على حالته وتحفّز طاقاته؛ تنبّه لما يتهدّده من أخطار؛ تحرّره من كلّ ما يحول دون أن تصبح حياته أكثر هناءً؛ تعمل على تعزيز مقوّمات كرامته؛ تعتني بشخصه وحياته العائليّة والاجتماعيّة والثّقافيّة والوطنيّة. ذلك أنّ مصير الإنسان مرتبطٌ بالمسيح ارتباطًا وثيقًا لا ينفصم، في ولادته وموته، وفي دعوته في الحياة، وفي خلاصه الأبديّ".
ورأى ان "الكنيسة تحتاج إلى التّعاون مع الدّولة التي من واجبها الأوّل تأمين ما يتوجّب عليها تجاه المواطنين من حقوق أساسيّة هي مصدر سلامهم. فكيف يتمتّعون بالسّلام، إذا حُرموا الحقّ في العمل كضرورة معيشيّة وتحقيق للذّات؛ ومن الحقّ في السّكن للدفء والاستقرار؛ ومن الحقّ في إنشاء عائلة كحقّ طبيعيّ للحياة السّعيدة والإنجاب؛ ومن الحقّ في الطّبابة لحماية الصّحّة من المرض؛ ومن الحقّ في الغذاء لتعزيز سلامة الجسد والنّشاط؛ ومن الحقّ في التّعليم والثّقافة لنموّ المواهب والإسهام في تقدّم المجتمع (راجع النصّ المجمعي: الكنيسة المارونيّة والشّان الإجتماعي، الفقرات 22-24). أجل، حرمان أيّ من هذه الحقوق إنّما يحرم أصحابها من أن ينعموا بالسّلام، ويتذوّقوا طعم الرّجاء الذي لا يخيّب. أمّا تأمينها فتمجيد لله. ذلك "أنّ مجد الله الإنسان الحيّ المحرَّر من كلّ ما يعوق نموّه البشريّ والرّوحيّ" (القدّيس ايريناوس؛ الإرشاد الرّسوليّ رجاء جديد للبنان، 100). إنّ السّياسة وُجدت وأُقيمت على مقدّرات الدّولة ومرافقها ومالها العامّ، من أجل تأمين هذه الحقوق لجميع المواطنين. وهي ترتكب خيانة بحقّهم، إذا أهملت واجبها، أو ما هو أفظع، إذا تآكلها الفساد، وراح أصحابها يحلّلون كلّ السّبل من أجل مصالحهم الخاصّة ومكاسبهم غير المشروعة".
وشدد على انه "لا يحقّ للجماعة السّياسيّة إهمال هذه الحقوق التي هي واجبات عليها، ولا حجب مساندتها للمؤسّسات الكنسيّة التي تشارك الدّولة في هذه المسؤوليّة الجسيمة، وتحمل عنها قسطًا وافرًا من هذه الواجبات، ولا يحقّ للمسؤولين في السّلطة العامّة التّلكّؤ عن أداء ما يتوجّب على الدّولة تجاه هذه المؤسّسات من مستحقّات ماليّة في وقتها، حمايةً لنشاطاتها في خدمة المواطنين، فيما هم يحمون الفساد والمفسدين، وتبديد المال العامّ، ويدّعون بأنّ الخزينة فارغة، وأنّهم إذا دفعوا المستحقّات، فهم يسجّلون ديونًا إضافيّةً على الدّولة. ومع ذلك ما زال أصحاب الشّأن يماطلون في تأليف الحكومة منذ سبعة أشهر، ويتفنّنون في خلق العقد في كلّ مرّةٍ تصل الحلول إلى خواتمها. وهم غير آبهين بالخسائر الماليّة الباهظة التي تتكبّدها الدّولة والشّعب اللّبناني. أليس هذا جريمة؟ هذا ما أثار غضب الشّعب أمس، فقاموا بتظاهراتٍ محقّة، لا أحد يعرف عواقبها الوخيمة، إذا استمرّ السّياسيّون المعنيّون في مناوراتهم؟".
وأضاف "إنّ السّلام المنتظَر من السّياسة السّليمة هو "الإنماء الإنسانيّ الشّامل الذي هو الإسم الجديد للسّلام"، كما كتب القدّيس البابا بولس السّادس في رسالته العامّة "ترقّي الشّعوب" (الفقرة 87). أجل، "الإنماء هو الطّريق المؤدّي إلى السّلام"، وسأل "أين نحن في لبنان من هذا السّلام الحقيقي، والمسؤولون السياسيون يمعنون في ضرب نموّ الإنسان والمجتمع والدّولة؟ لقد أنتجت ممارستهم السلبيّة المأزومة للعمل السياسي، أزمة إقتصاديّة واجتماعيّة ومعيشيّة خانقة حتى بلغت بثلث الشّعب اللّبنانيّ إلى الأدنى من مستوى الفقر، وبثلاثين بالمئة من شبابنا وقوانا الحيّة إلى حالة البطالة، وفتحت واسعًا باب هجرة الوطن حسّيًّا ومعنويًّا. وبسبب الفساد المستشري في الوزارات والإدارات العامّة وتعطيل الحركة الإقتصاديّة وصلوا بماليّة الدّولة إلى حالة خطرة مع تزايد العجز وتراكم الدّيون. ومن جراء عدم الجديّة والاتّفاق على وضع خطّة واعية لعودة النّازحين واللّاجئين إلى بلادهم، ثقُل أكثر فأكثر عبئهم الإقتصاديّ والإجتماعيّ والأمنيّ على لبنان وشعبه".
وقال: "الدولة لا تستطيع التّخلّي عن دورها في تنفيذ القرارات والسّياسات الدّوليّة وبخاصّة النّأي بالنّفس وتطبيق القرار 1701. ولا يحقّ لها التّنازل لأيّ طرف عن حقّها وواجبها بالقرار الأوحد في قضيّة الأمن القوميّ اللّبناني وفي السّياسة الخارجيّة والعلاقات الدّوليّة. ونتساءل أين هي مسؤوليّة رجال السّياسة عندنا، المنشغلين بمصالحهم وحصصهم، عن حماية دولة العيش المشترك والميثاق، فيما الممارسة الكيديّة والغدّارة الطّائفيّة والمذهبيّة في الإدارات العامّة، والجامعة اللّبنانيّة، والأمن الدّاخلي تجنح بالدّولة إلى غير طيب العيش معًا الذي أردناه ركيزة أساسيّة لديمومة وطننا وعقدنا الإجتماعي، وإلى غير مشروعنا اللّبنانيّ المحبّ للإنسان والحرّيّات والسّلام في دولة مستقلّة قادرة وحدها على حماية مواطنيها، وفرض طاعتهم لها. أين هم من تطبيق اتّفاق الطّائف نصًّا وروحًا، وقد مضى عليه ثلاثون سنة، وأرادوه مدخلاً لإعادة بناء الدّولة عبر توسيع المشاركة في الحكم والإدارة، وتعميمها ونشر اللاّمركزيّة الإداريّة الموسَّعة والإنماء الشّامل؟".