كلما استعرضنا الإختلالات الداخلية التي تُصيب البنى الفكرية والسياسية للإجتماع الإسلامي، إنبرى أصحاب النزعة السلفية والتقليد إلى إلقاء اللائمة في الأزمة على الإستعمار والقوى الخارجية متجاهلين عن قصد أو مخففين من آثارها ونتائجها إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ولقد غالوا في التقدير إلى حد الإنكار للأزمة ونتائجها بل فرضوا مصطلح الصحوة بدل الكبوة الماثلة وهذا بالضبط ما تفرضه القوى السلطوية المتكالبة على الإمساك بها ولذلك أجابت على المطالبة بالتغيير بأنها مؤامرة وحرب كونية !
إلا أن مشاهد الإخفاق في الإجتماع العربي والإسلامي تُعيد ضرورة فتح النقاش على مصراعيه ومعها نسمع مقولة أن المشكلة ليست في العقلية العربية وليست في الدين الإسلامي لأنه قادر على الإنبعاث من جديد في كل زمان وتأمين الحلول من نفس القماشة التي ظهر على وجهها التلف فإذا بالبطانة لازالت على لونها وتُعيد استعمالها فتقول أن المشكلة ليست في الدين بل في فهم المسلمين له والحل يكمن في العودة إلى تطبيقه (والشريعة هي الحل ) وما حركات الإصلاح في بداية القرن المنصرم إلا حاجة للسؤال الملح ، هل مازال الإسلام هو الحل بل وقادراً على النهوض بسؤال العصر؟
وبإزاء ذلك نهض متنورون ليؤكدوا ضرورة تجديد الفكر الإسلامي على الصعد كافة خوفاً على دينهم من جهة وتفهم لسرعة العصرنة وأسئلتها التي تُسابق الزمن وهذا ما انبرى إليه كوكبة من الإصلاحيين أمثال محمد عبدو وجمال الدين الأفغاني ومحمد حسين النائيني في حركتهم الفكرية وهي إن نجحت في إطلاق حركة التجديد والإنفتاح على العصر إلا أنها فشلت في التطوير والإستمرار والآليات وبناء الدينامية التي تطور بها خطابها وبعدها تضاءلت النتاجات مع الخلف لهؤلاء الثلة.
إقرأ أيضا : الشيخ عباس الجوهري في مؤتمر باريس: الحرية أساس بناء السلطة والدولة العادلة
حتى انفجرت في ستينات القرن ذاته الأزمة من جديد مع بروز الفكر الإحيائي وانما على شكل ثورات أحزاب الإسلام السياسي التي نظر لها سيد قطب في النقاش الذي كان مستعراً حول مفهوم الحاكمية الإلهية الذي لم يتأخر بعض من تابع مسيرة محمد عبده والأفغاني في الساحة الفكرية السنية أمثال محمد عماره حيث انبرى إلى نقاش هذا المفهوم وحاول تفكيك عناصره وأشار إلى مخاطره مبكراً وبقيت الأمة تعيش تجاذبات الإسلام الإحيائي بشقيه الحركي والسلفي الساكن وتأخر المتنورون عن السبق في معركة فرض فكرة الدولة الوطنية المدنية في أكثر من قطر عربي .
ومع ذلك فقد نُصّ في أكثر من دستور لأكثر من بلد عربي منها مصر أن مصدر التشريع هو القرآن الكريم والشريعة الإسلامية توظيفاً لشكل الدين في إحراز رضا المجموع الذي يحنّ دائماً إلى فكرة الدين وتحكيمها ولا تُميّز بين ما هو شأن بشري لم تتسع الشريعة وفقهها له وبين ما هو ديني فتخربت الدولة ولم يصلح شأن الدين.