إن قرار إنسحاب أميركا من سوريا يأتي في سياق تسارع أحداث متباينة وتفاهمات عميقة بين إيران وأميركا في المنطقة. وطبعاً هذا القرار لم يأت في سياق عودة واشنطن الى قواعد القانون الدولي بل يأتي في سياق ثمرة تفاهمات ضمنية عميقة ونوعية بين أميركا وايران نتيجة قنوات اتصال السرية سبقتها اتصالات سرية ابرزها قناة الاتصال في مسقط التي زارها بنيامين نتنياهو قبل شهر ونص وبالتالي، لم يكن مفاجئا هذا القرار الذي أعاد تركيبة سوريا بشكل تم تسليمه لإيران والنظام السوري لتحلا هذه القوى على طريقتهما موضوع مكافحة الارهاب من شرق سوريا تمهيداً الى المعركة الكبرى في ادلب ولم تكن زيارة تميم بن حمد ال الثاني، امير قطر الى طهران إلا في سياق مساعي تأكيد خط هذه المفاوضات الاميركية-الايرانية ونقل الرسائل بهدف انضاج المفاوضات الايرانية-الاميركية. وبالمقابل ستشهد المنطقة من الآن فصاعدا، خروج كل الأرانب من مخبئها لأداء وظيفتها المحددة بفعل جولات عنف جديدة أبرزها من سوريا واليمن ولن تكون بغداد وغزة ولبنان في منأى عن هذا التصعيد والتطورات التي شاءت أن تكون دموية ودراماتيكية عبر إطلاق ذراع السياسة الإيرانية في المنطقة أمنياً وسياسياً من جديد وعودة الإرهاب والعنف المتوحش بحجة مكافحة الإرهاب خاصة مع تزامن إطلاق قوات سوريا الديمقراطية( قسد ) سراح 3300 داعشي يعد بمثابة فتح الأبواب أمام عملية إخراج الأرانب كل من مخبئه ليؤدي وظيفته المرسومة سلفاً لإضعاف العرب في المنطقة. وهذا يعد بمثابة مؤشر خطير يمهد الى سيناريوهات التالية:
أولا: إما استمرار الأوضاع والتوازنات الحرجة القائمة .
ثانيا: الفوضى والصدام بين الصعود والتراجع الايراني الصلب.
ثالثا: الاصلاح والتنسيق الاقليمي بين التراجع والصعود الايراني الناعم. وعلى أساس ذلك، يأتي التقييم وبدائل احتمالات اما الجنوح نحو تقليل الانخراط وتجنب المواجهة او خيارات المواجهة والتصعيد.
إقرأ أيضا : ماذا يعني تهديد نتنياهو إيران بالهجوم؟
وبالتالي لو عدنا الى حقيقة البعد الاميركي لوجدنا ان قرار الإنسحاب لم يأت من عبث بل من خلال سيرورة محكمة بفعل أحداث مترابطة ومتسلسلة أولها إصدار قانون جاستا، او ما يعرف بالعدالة ضد رعاة الارهاب الذي جاء في عام 2016 على ضوء أحداث 11 ايلول 2001 والكفيل بفهم السياسة الأميركية وتحديدا ادارة ترامب اتجاه العلاقة مع المملكة العربية السعودية من محاولات لتقويضها وتوريطها وابتزازها سواء بتصوير وتضخيم الدور الايراني في المنطقة من اليمن والعراق وصولا الى سوريا ولبنان وفلسطين مما يشكل ذلك بمثابة تهديد أمني ووجودي لمنطقة الخليج مما يستوجب التصدي له من خلال تبرير شراء الاسلحة وابتزاز المملكة السعودية مالياً سواء جراء قضية خاشقجي وإثارة الأزمات الانسانية مما يدفع الأمر بالسعودية إلى ارتكاب العديد من الحماقات وكمحصلة لذلك، يأتي الايراني ليعيد حساباته وتموضع علاقاته وحضوره في المنطقة. لكن، ما هو مثير في الأمر أن مسارعة الأميركي إلى تقوية النفوذ الإيراني في المنطقة على حساب العرب وذلك من خلال إدانة الكونغرس الحلف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن محاولة بذلك، فرض هدنة على بوابة الحديدة على مسافة 500 كلم من اجل اسعاف الحوثيين في اليمن واعادة تموضعهم او من خلال التفريط بالاكراد والاخلال بوعدهم في تحقيق دولة انفصالية كردية في العراق على اساس ان هناك اتفاق استراتيجي مع ايران قبل اعطاء هذا الوعد للكردي في سياق التدخل الاميركي في نتائج الانتخابات العراقية وإلزام حلفائها السنة المتطرفين لمراجعة ايران نتيجة استفتاء البرازاني حول دولة انفصالية كردية في العراق. ولينتقل الدعم الاميركي في سوريا من خلال انسحاب أميركي- بريطاني مفاجئ من سوريا تمهيدا لجولات العنف والدماء تمهيدا لمعركة ادلب وصولا الى لبنان وافتعال قصة الانفاق كمسوغ تبريري يتم التصوير من خلاله انه فعلا هناك قوة ايرانية مهيمنة وخطيرة في المنطقة تهدد مصالح اسرائيل والخليج. مما يعزز ذلك، اثارة اشكالية التغيير الديمغرافي والهوية في المنطقة وتحديدا في سوريا والعراق من خلال التأثير على الارض عبر تأسيس ضغط سياسي واقتصادي ومذهبي مما يدخل في اطار المحددات الجغرافية والمذهبية الذي يعرف "بالكوزموبوليتيا الشيعية" التي تحفظ الامن القومي الايراني على حساب الامن القومي العربي بفعل تفكيك المجتمعات العربية وتجزأتها وتفريغها من سكانها الاصليين واستخدام الشيعة كمذهب موالي لإيران ثقافيا وسياسيا وفكريا عبر الارتكاز على محددات الجغرافيا والسكان عبر أدلجتهم بمنطق "المقاومة المقاولة" التي لا تخدم الانسان وكبريائه وسيادته ولا استقراره سوى العيش في حالة من التحريض ،التناحر والكراهية والتعصب والتطرف والارهاب اللامتناهي. فكيف تفسرون مسألة عدم إنماء مدينة هرمل وشعبها الذي يعيش حالة فقر وتهميش وحرمان وهذا ما أوضحته مشاورات توزير جواد عدرا مدى حرص المقاومة على لبنان بتعطيل البلد في سياق مشروع كل هذه القنوات الاتصال والمماطلة السياسية ... ما هذه المهزلة السياسية حقا ً !!
ان هذه المسارات يمكن ان تترجم في إطار الاهداف الايرانية في التغيير الديمغرافي بهدف تفكيك المجتمع السني من خلال تشويه العرب واطلاق البروباغندا النازية:" كذب كذب حتى يصدقونك" مما يسهل عملية المصادرة لمستقبل الشباب والاجيال ودفعهم الى التطرف والعنف والارهاب وتدميرهم وجعلهم اداة سهلة الاستنزاف والخرق واكثر تخلفا وتوحشا. إن هذه الكراهية لن تؤدي سوى الدور الايراني المناط به لتحقيق اهداف اميركا في المنطقة وهو شيطنة العرب والقضاء عليهم وهذا ما جاء اساس على لسان ترامب خلال حملته الانتخابية قائلاً سأعيد السعودية الى ركوب الجمل، أي التخلف اضافة الى موقفه وتصريحاته المعادية للاسلام كلها سياسات تخدم اسرائيل من ناحية تبرير وجودها واعتماده العنف المضاد كذريعة لانتاج جسم عربي متوحش ومتناحر طائفيا ومذهبيا وقبائليا ومفككاً يخدم السياسة الاميركية من خلال تنفيذ مخططاتها دون تكبد اي خسائر في صفوف قواتها ولا مزيد من التورط المباشر في الازمات الدول العربية ( سوريا). مما يستدعي ذلك الى طرح سؤال ملح ما هي نتائج خيارات مفاوضات قنوات الاتصال في كل من مسقط وجنيف على المنطقة؟
خيار الاول: خيارات تقليل الانخراط وتجنب المواجهة
وتقوم على مزج الدول العربية بين خيارات الانعزال والتنمية الداخلية والتركيز على القضايا والتحديات الداخلية الامنية والاقتصادية والسياسية بشكل اساسي، مع محاولة تبني سياسات اقرب الى الحياد وتقليل الانخراط في المواجهة ضد توسع الادوار الايرانية، وتبني استراتيجيات اقرب الى انتظار وتغيير عناصر الضعف الكامنة والخلافات داخل النظام الايراني وتأثيرتها في قلقلة استقرار النظام وتغيير سياساته، مع تمرير المسؤولية في ممارسة الضغوط على ايران الى الحلفاء والفاعلين الآخرين سواء من( الولايات المتحدة ، أوروبا ، روسيا ) أو إقليميين (اسرائيل ، تركيا) باعتبارهم ذات دوافع أصيلة في تحجيم الأدوار الايرانية بما يهدد مصالحهم الحيوية في المنطقة. ان خطورة هذا البديل هو في إمكانية توصل هذه الاطراف الى اتفاقات وتفاهمات صريحة أو ضمنية لاقتسام النفوذ مع ايران بشكل لا يراعي المصالح العربية بشكل اساسي، وهذا ما تحقق جزئيا في الاتفاق النووي الايراني عام 2015، مع تعدد المصالح الاقتصادية الكامنة مع هذه الاطراف.
خيار الثاني: خيارات المواجهة والتصعيد
اي سعي لتطوير القدرات العسكرية الذاتية وتعزيز التحالفات للدول العربية مع اطراف اقليمية ودولية ذات معارضة لايران يهدف إلى تحجيم ادوارها. ان امكانية اثارة تداعيات عكسية بتصعيد حدة المواجهة الاقليمية وزيادة التشدد الايراني وانماط ادواره الصراعية والتدخلية او امكانية استغلال ايران هذه المواجهات لصالحها بالنظر الى ما اظهرته خبراتها مع ازماتها وفي الجوار الاقليمي من طابع براغماتي –ذكي، قادر على تحويل الازمات الى فرص وتعزيز نفوذها عبر توظيف اخطاء الفاعلين الآخرين على غرار توظيف الفراغ الاستراتيجي الذي خلفه الاحتلال الاميركي للعراق والتورط في استنزاف العرب وقدراتهم الذي ينعكس سلبا على اولويات ومخصصات الاصلاحات الداخلية والتنمية العربية وتأجيج الانقسامات العربية نتيجة اولوية تقديرات المواجهة مع ايران تضاف الى ذلك مخاطر الاصطفافات الخاطئة المستنزفة لشرعية النظم العربية لاسيما اطراف مثل اسرائيل الذي يعزز شرعية محور المقاومة والممانعة وتبرير الادوار الايرانية في ساحات عربية قد تعرض الايراني لاي انتكاسة يحذر عليها مقايضات صعبة من شأنه مراجعة أنماط الأطراف المعادية لإيران وانفتاحهم على الإقليم بشكل يفتحون علاقات متبادلة مع جيرانهم بدافع أمنهم القومي لتقاسم مساحة نفوذ ودور إقليمي على ضوء ترتيبات محكومة بالظروف والتطورات المقبلة.
لمواجهة ما هو أعظم !