لا يجوز الانطلاق في أي مقاربة سياسية من حتميات، أي من خلال الحسم بأنّ هذه العقدة أو تلك هي خارجية أو داخلية في المطلق، وأنّ ّهذا الأمر غير قابل للنقاش ونقطة على السطر، لأنّ أيّ عقدة في بلد مثل لبنان، خاضع للتأثيرات الخارجية، يمكن أن تحمل في طيّاتها أبعاداً داخلية وخارجية في آن معاً، مع فارق انّ المنسوب الأكبر في استحقاقات معينة قد يكون خارجياً أحياناً، ومرّات أخرى داخلياً، لأنه من الصعب عَزل العوامل الداخلية والخارجية نهائياً.
وما يجدر قوله انّ الطابع الأساس لانتخاب العماد ميشال عون هو لبناني، ولكن لو وجد «فيتو» خارجي لَما حصلَ هذا الانتخاب، ومن هنا التسهيل الدولي والإقليمي ساهمَ في هذا الانتخاب، إلّا انّ الجزء الأساس هو لبناني، وقد بدأ مع تأييد «حزب الله»، ولكنه عاد وتوقّف إلى حد الجمود الذي أعادت «القوات اللبنانية» تحريكه من خلال ترشيحها عون، والذي وَلّد دينامية انتقلت إلى «المستقبل» و«الإشتراكي» وصولاً إلى قصر بعبدا.
فالعوامل الخارجية دائماً موجودة في بلد مثل لبنان، وللعوامل الداخلية دورها أيضاً. وهل يمكن مثلاً عَزل الأحداث اللبنانية عمّا يحصل في اليمن والعراق وسوريا بعد الانسحاب الأميركي، والتركيز الإسرائيلي على «حزب الله» غير المسبوق منذ فترة طويلة، والعقوبات الأميركية على طهران والحزب، وغيرها من التطورات التي تؤشّر إلى محاولة هندسة أوضاع منطقة الشرق الأوسط وترتيبها؟
لا يمكن بالتأكيد عَزل كل المشهد الخارجي وتأثيراته الداخلية من زاوية التعامل مع لبنان كورقة مُقايضة او ابتزاز او صندوق بريد، لكنّ أيّ مراجعة لمسار الملف الحكومي تفيد أنّ الطابع الأساس للتعقيد كان لبنانياً بامتياز، للأسباب الآتية:
ـ أولاً، لا امتداد إقليمياً للعقدة الدرزية التي كانت محلية بَحتة، وقادَها الوزير جبران باسيل بهدف استبعاد الحصرية «الإشتراكية» في مجلس الوزراء، وفي محاولة لخَلق توازن درزي مع حليف إرسلاني شَبك معه نيابياً ويأمل في ان يشكّل قاعدة دعم رئاسية لاحقة على قاعدة «بْسَلّفك تا تسَلّفني»، خصوصاً بعدما أيقنَ باسيل صعوبة بناء علاقة ثابتة مع رئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط. وبالتالي، إنّ العقدة الدرزية التي امتدت لأشهر عدة ليست إقليمية بل محلية بامتياز، ومن أهدافها زيادة الحصة الوزارية للفريق الرئاسي.
ـ ثانياً، لا امتداد إقليمياً للعقدة المسيحية التي كانت محلية بامتياز أيضاً وهدفها مزدوج: إمّا إحراج «القوات» لإخراجها من الحكومة، وإمّا أن يقتصر تمثيلها على 3 وزراء من أجل تحقيق أحد الأهداف الأساسية وهو «الثلث المعطّل»، فيما التمثيل الوزاري الرباعي لـ»القوات» يحول دون ذلك. وكلّ المَد والجزر لهذه العقدة وما رافَقها كان محليّاً صرفاً، وكل الكلام عن أبعاد إقليمية لا يمتّ إلى الواقع والحقيقة بصِلة ويدخل ضمن البازار السياسي، والقوى المعنية تعلم ذلك تماماً.
ـ ثالثاً، العقدة السنية هي الوحيدة التي أعطَت الانطباع بكونها من طبيعة إقليمية لسببين: الأول، لأنّ «حزب الله» يقف خلفها والارتباط العضوي للحزب خارجيّاً يدفَع الظَنّ في هذا الاتجاه، والثاني كونها افتعلت افتعالاً، باعتبار انّ الحكومة كانت على قاب قوسين أو أدنى من أن تصدر مراسيمها لولا بروز هذه العقدة.
وفي موازاة هذه النظرة، لا يجب التقليل من عامل داخلي مهم جداً أيضاً، وهو انّ «حزب الله» الذي سعى الى قانون انتخاب نسبي كان الهدف منه خَرق ساحة «المستقبل» السنية، حيث هناك قاعدة له كان النظام الأكثري يحول دون تمثيلها، ولم يَكتف بالخرق النيابي الذي حَقّقه، إنما سعى الى توسيعه في اتجاه الحكومة، وهو يعتبر انّ هذا الهدف من طبيعة استراتيجية لا تكتية بُغية إظهار انّ البيئة الحاضنة لـ«المقاومة» ليست شيعية الطابع فقط لا غير، بل هي وطنية أيضاً، والدليل انّ لها حيثية سنّية ودرزية ومسيحية. ومع تحقّق هذا الهدف، أفرجَ الحزب عن الحكومة، ما يعني انّ، حتّى هذه العقدة، هي محلية.
ـ رابعاً، شَكّل الثلث المعطّل العقدة الأبرز، إنما غير المعلنة، خلافاً للعقد الدرزية والمسيحية والسنية. كذلك شكّل المواجهة المُضمرة الأشرس، إلى حدّ انّ هناك من يعتبر انّ الوجه الآخر لتَمسّك «حزب الله» بتمثيل سنة 8 آذار هو انتزاع «الثلث المعطّل» من باسيل، الذي كان قد حصل عليه من خلال المقعد الدرزي واتفاقه مع النائب طلال ارسلان، فيما لم يُخف رئيس «التيار الوطني الحر» سَعيه إلى هذا الثلث ولكن مع تغيير تسميته، بأنّ تمثيله يُتيح له الحصول على حصة من 11 وزيراً، إنما النتيجة واحدة، الأمر الذي تبيّن بأنّ الحزب لا يَستسيغه تَجنّباً لمواجهة مع باسيل لا يريدها، لأنّ امتلاكه هذا الثلث كان سيجعله في مواقف ومنعطفات عدة في مواجهة معه.
ومن الظلم والإجحاف القول انّ الحكومة العتيدة هي حكومة «حزب الله»، وأيّ قَول من هذا النوع هو مُجاف للواقع والحقيقة. وعلى رغم من الوقت الذي استغرقته، إلّا انّ تشكيلها أظهَر انّ مبدأ التسوية والوصول إلى مساحة مشتركة كان الأساس، فقاعدة «اللاغالب ولا مغلوب» تنطبق على كل مكوّناتها، وتحديداً على الأطراف المعنية بالعقد التي كانت قائمة.
فالعقدة المسيحية انتهَت بلا غالب ولا مغلوب بين «القوات» و»التيار الوطني الحر»، وكذلك الأمر بين «الإشتراكي» و«التيار الحر»، وأخيراً في العقدة السنية التي تمثّل فيها «المكوّن الجديد» من خارجه ومن خارج حصّة «المستقبل» وعلى حساب الحصة الرئاسية.
وهناك من اعتبر انّ الصورة الانقسامية التي ظهر فيها اللقاء «التشاوري» كان يمكن لـ»حزب الله» تَجنّبها، ولكنه لم يأبه لذلك لأنّ هدفه الأساس ليس تمثيل هذا المكوّن، بدليل انه لم يتمسّك بتمثيله بأحد نوّابه مباشرة، علماً انه كان يستطيع مثلاً ان يتمسّك بهذا المطلب. وبالتالي، إنّ هدفه الأساس هو منع باسيل من الحصول على الثلث المعطّل، وهذا ما يفسّر مطالبته المتأخرة بتمثيل سنّة 8 آذار.
ولا بد أيضاً من الإشارة إلى 3 عوامل محلية ساهمت في وضع حد للفراغ: إستعجال رئيس الجمهورية، الذي بدأ يَستشعِر التداعيات السلبية على عهده، لاسيما أنه من الصعوبة تغيير الوقائع أو تحصيل المزيد من المكاسب الدستورية.
والعامل الثاني يرتبط بالوضع الاقتصادي الذي اقترب من الكارثة الفعلية. أمّا الثالث فيتمثّل بالاستفادة من دينامية عيدي الميلاد ورأس السنة، لأنّ الدخول في الفراغ مع بداية العام ٢٠١٩ يمكن أن يَمتدّ حتى الربيع، وبالتالي إنّ محطات من هذا النوع تشكّل عوامل مساعدة.
في كل هذا المشهد، وعلى رغم تداخل العوامل الخارجية بالداخلية، يمكن الجزم بأنّ الأسباب الداخلية للفراغ الحكومي تطغى على الأسباب الخارجية.