يكاد المراقب ألاّ يرى في أنفاق حزب الله إلا فخاً أجادت إسرائيل نصبه عن سابق تصور وتصميم. تكشف الصحافة الإسرائيلية حكايات عن المسار المخابراتي المُستغرق منذ سنوات، والذي كان يراقب عن كثب تدحرج تلك الأنفاق داخل أعماق الشمال الإسرائيلي.
كان يمكن للطرف الإسرائيلي أن يحيّد هذه الأنفاق، أن يفجرها سراً أو علانية، ويجعلها مشلولة وعاطلة عن أي استخدام عسكري. غير أن إسرائيل، ورئيس حكومتها بنيامين نتنياهو بالذات، اختارا تحويل الأنفاق إلى أزمة بالنسبة للحزب في خياراته العسكرية، وفي علاقته مع بيئته من جهة، وفي علاقته مع لبنان حكومة وشعبا من جهة أخرى، وإلى أزمة بالنسبة للبنان بلدا ومؤسسات وشرعيات دستورية.
لا اتفاقات دولية بين إسرائيل وقطاع غزة. القطاع ليس دولة ذات سيادة معترف بها دوليا، وليس جزءا من المجموعة الدولية في منظمة الأمم المتحدة. وعلى هذا فإن حرب الأنفاق هناك هي جزء من منطق الصدام الذي لا تجوز عليه رؤى الحرب وقواعدها العسكرية. وعلى هذا تمعن “حماس” وأخواتها في حفر تلك الأنفاق، وتستمر إسرائيل في اقتفائها وتفجيرها وهدمها وجعلها أهدافا دائمة لجيشها، سواء في حالة الحرب، أو في الحالة الراهنة التي ينظمها اتفاق لوقف إطلاق النار هناك.
لكن أمر الحدود الجنوبية لإسرائيل مع قطاع غزة لا تشبه أمر حدودها الشمالية مع لبنان.
تطلّ إسرائيل على قضية الأنفاق بصفتها دولة قانون تتعرض لعدوان من ميليشيات تخضع لأحكام الإرهاب هنا وهناك. حزب الله “تنظيم إرهابي”، وفق قوانين إسرائيل، كما قوانين الولايات المتحدة، وحتى لو كانت دول العالم تسعى لتصنّع التمييز بين ما يسمى جناحيْ الحزب، السياسي والعسكري، فإن إسرائيل تقدم نفسها ضحية تدافع عن نفسها وتشتكي ممن يسعى للتسلل إلى داخل حدودها. بمعنى آخر، تعتبر إسرائيل، وتريد للعالم أن يشهد بذلك، أنها تتعرض لهجوم إرهابي مدمر، بتوقيت مستقبلي وافد من أراضي دولة ذات سيادة وعضو مستقل معترف بكينونته داخل المنظمة الدولية.
خلال دقائق فقط، وفي لحظة إعلان نتنياهو عن الكشف الكبير على حدود بلاده الشمالية في 4 ديسمبر الجاري، فقد حزب الله شبكة الأنفاق التي عمل على إعدادها بصمت خلال أعوام ما بعد حرب عام 2006. فقد الحزب أنفاقه قبل أن يستخدمها وقبل أن يُنهي بناءها. لم يفقدها بالقتال والحرب، بل بالسذاجة والبساطة التي تفهم بها الميليشيات المنظومة الدولية وخبث عدوها. والواضح أن إسرائيل التي خبرت طوال العقود الماضية تجارب العدوان والاحتلال، وأظهرت ارتباكا في التعامل مع الهجمات حين كانت تشنّ في جنوب لبنان أيام الاحتلال الإسرائيلي، أو تلك التي ما زالت تشنّ في الضفة الغربية وقطاع غزة حتى الآن، وجدت في أنفاق حزب الله فريسة سهلة، استدرجتها بسهولة نحو عقر دارها وأوقعتها هناك أسيرة شلّت قدراتها.
يشبه ذهاب الأنفاق نحو إسرائيل مترا بعد متر ما كان يفاخر به أمين عام الحزب، السيد حسن نصرالله، في أكتوبر من عام 2000، حين أعلن عن أسر جاسوس إسرائيلي برتبة عقيد في جهاز الاستخبارات الإسرائيلية (موساد)، جاء على رجليه إلى لبنان، ودخل بنفسه عن طريق مطار بيروت. تمت مبادلة الأسير في ما بعد برزمة من المطالب، فما الذي يستطيعه حزب الله لاستعادة أسيره؟
تمثل قضية أنفاق حزب الله عنوانا تحمله إسرائيل نحو مجلس الأمن يبرّئ تل أبيب من ذنوب محتملة قادمة ضد لبنان، ويحوّل لبنان بأكمله في عرف المنظمة الدولية، إلى بلد يشكّل، في حزبه الشهير وحكومته المبتورة ونظامه السياسي المتصدع، خطرا على أمن إسرائيل الاستراتيجي. فإذا ما كانت الصواريخ التي يملكها حزب الله في لبنان مزاعم يتقاطع حزب الله وإسرائيل على تأكيدها، فإن الأنفاق ليست احتمالا، بل حقيقة تؤكدها الـ”يونيفيل” وتنقلها الكاميرات، على نحو يحضّر الرأي العام الإسرائيلي الداخلي لتقبل الحرب المقبلة بسبب ضرورتها، وتحضّر الرأي العام الدولي لاحتمالاتها بصفتها حقا تضمنه شرائع الأمن والسيادة في هذا العالم.
قابل حزب الله حملة “درع الشمال” الإسرائيلية بالصمت. بدا الصمت تعبيرا عن ارتباك وليس تعبيرا عن “مداراة الحوائج بالكتمان”. ظهر أن استخدام الحزب لحملاته الدعائية، التي تنشر صور “الأهالي” آمنين على الحدود الجنوبية، ساخرين من جنود إسرائيل في الضفة الأخرى من الحدود، بات متقادما تفوح منها صبيانية لا ترقى إلى مستوى الحدث. والظاهر أن الحزب الذي سوّق كثيرا لدى “الأهالي” منطق المقاومة ضد إسرائيل، ثم بجلافة حرب “الدفاع عن المراقد” في سوريا، يواجه صعوبة في التسويق لديهم لأنفاق هجومية لا تندرج ضمن أدبيات الدفاع، بل داخل أجندات كبرى غريبة عن يومياتهم.
غير أن مسألة الأنفاق، وبغضّ النظر عن السيناريوهات الماكيافيلية التي تستخدمها إسرائيل والتوقيت الذي اختارته لذلك، أماطت اللثام عن تعفّن المنظومة الشرعية اللبنانية مقارنة عمّا كانت عليه أثناء حرب عام 2006، في عهد حكومة فؤاد السنيورة. بدت بيروت حينها قادرة على المبادرة وتحريك علاقاتها لدى الدائرتين العربية والدولية، وقادرة على فرض خيارات، على حزب الله، كما على المجتمع الدولي لإنقاذ لبنان ووقف الحرب ضده. بدا أن بيروت هذه الأيام مستسلمة للعواصف الإسرائيلية، مكتفية بما منّ عليها الطرف الأميركي من تطمينات انتشى بها رئيس الجمهورية ميشال عون، حول أن لا خطط عدوانية ضد لبنان لعملية “ردع الشمال” الإسرائيلية.
استسلم حزب الله عام 2006 للتفاهمات التي سعت إليها حكومة السنيورة للوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. اضطر الحزب إلى القبول بقرار الحكومة اللبنانية بإرسال الجيش اللبناني النظامي إلى جنوب لبنان، كما اضطر للقبول بقرار مجلس الأمن رقم 1701، كما إرسال قوات الـ”يونيفيل” لترابط داخل الأراضي اللبنانية، وليس الإسرائيلية، لضمان أمن الحدود.
بيْد أن المنظومة السياسية اللبنانية تبدو عاجزة هذه الأيام، لا خطط لها، مستسلمة للمزاج الذي يمكن أن يخرج عن العالم إثر حملة إسرائيل الدبلوماسية المتواكبة مع ضجيجها العسكري على الحدود مع لبنان. فإذا ما صمت حزب الله، فإن في ذلك ما يوحي بأن هامش المناورة أمام الدبلوماسية اللبنانية بات أوسع وصار متاحا لها الإمساك بزمام الأمور للتعامل مع المأزق وتوفير مقارباته. بيد أن غياب ذلك كشف عن عقم بات بنيويا، بحيث أن أطراف الحكم ينتشون بما أمكن أن ينعم به عليهم الحزب من وزير هنا ووزير هناك داخل حكومة عتيدة يبني الحزب ويفك عقد ولادتها وسبل ظهورها.
تسقط أنفاق حزب الله. ويسقط الحزب أيضا بصفته ضرورة للدفاع عن لبنان. لم يعد “سلاح المقاومة” عاملا رادعا للعدوان، بل بات سببا مستدرجا لذلك العدوان. لم يعد باستطاعة نصر الله إقناع مريديه وخصومه بأن قواته “ستدخل إلى الجليل وما بعد الجليل في أي معركة مقبلة”. وفي ذلك السقوط ينكشف لبنان على نحو مخجل، بحيث لا يصدر عن بيروت إلا تعهد لا تملك مفاتيحه باحترام القرار رقم 1701.
ولِد القرار في عهد حكومة السنيورة التي أطلق عليها الرئيس نبيه بري اسم “حكومة المقاومة”، قبل أن تحاصره تلك “المقاومة” داخل مكتبه في السراي الحكومي بعد أشهر. والواضح أن حزب الله الذي يهوى، وفق عقائد الميليشيا، الحراك في الأنفاق، قد يخرج من أنفاقه، مقابل استغراق لبنان في أنفاق ليس متاحا له الخروج منها.