بسحر ساحر، تغيّرت مختلف المعطيات المتداولة سياسياً، على الصعيد الإقليمي والدولي، والإنعكاسات التابعة لها على الساحة المحلية. بناء على كل هذه المعطيات الواسعة المدى، جرى تحقيق الاختراقات الإيجابية في المواقف، باتجاه تشكيل الحكومة. بالعودة إلى العناوين، التي رفعت حول ما يعرقل ولادة الحكومة، يظهر أن حزب الله والمحور الذي ينتمي إليه كسب الرهان على الوقت، بخلاف القوى المتعارضة معه. لم تنجح رهانات الفريق الذي عوّل على ضغط العقوبات الأميركية، لدفع إيران وحزب الله إلى تقديم تنازلات. لا بل على العكس، أسهم التشدد الإيراني في كل من لبنان والعراق إلى جانب "الصمود" في سوريا، والإلتفاف على كل الاتفاقات، في تحقيق أهداف الإيرانيين.
من الحُدَيدة إلى بغداد.. فبيروت
والملاحظ، أن جملة الملفات التي كانت عالقة قد سارت مع بعضها البعض، بدءاً من الاتفاق على وقف إطلاق النار في الحديدة، ربطاً بتحريك التسوية الحكومية في العراق، وإيجاد مخرج مشرّف لفالح الفياض، الذي تشددت إيران في المطالبة بمنحه وزارة الداخلية، وعادت وتراجعت عن مطلبها مقابل إعادته إلى كل المناصب التي جرّد منها، كرئيس لهيئة الحشد الشعبي ومستشار للأمن القومي العراقي. هذه الملفات هي التي أسهمت في تحريك الملف الحكومي في لبنان، والوصول إلى اتفاق، خصوصاً أن المبادرة الأخيرة التي طرحت لم تكن جديدة، بل كانت مطروحة سابقاً، لكنها عادت وسلكت طريقها إلى النور على إثر التطورات الخارجية. وهي سارت وفق الشروط التي رسمها حزب الله، بتمثيل السنة الموالين له، وعدم حصول أي طرف على الثلث المعطّل، إلا إذا أراد الحزب منحه إياه بنفسه.
وما يعزز ربط الملف اللبناني بجملة الملفات الإقليمية، نقطتان أساسيتان. الأولى، هي ملف الأنفاق، والذي بدأ فيه الإسرائيلي التراجع عن التصعيد والتهديدات العسكرية، بمجرد الذهاب إلى جلسة علنية لمجلس الأمن الدولي، حيث جرى تحميل مسؤولية ما يحدث عند الحدود للدولة اللبنانية. وهذا ما يسهم في إضعاف الدولة وإلقاء اللوم عليها، لصالح تعزيز قوة حزب الله ومناعته، بتصويره القادر على إدارة كل الأمور. وكلام أحد مسؤولي الخارجية الأميركية، في تعليقه على التسوية الحكومية، بأن واشنطن ترى ما يجري بمثابة تقدم سياسي لحزب الله في المعادلة اللبنانية.. هو خير دليل يختصر الصورة.
أما النقطة الثانية، فتتعلق بالموقف الأميركي الجديد، حول وجوب الإنسحاب من سوريا. هذا يعني مناقضة كل المواقف الأميركية السابقة، التي أطلقت لجهة تحجيم نفوذ إيران وقطع الخط الإستراتيجي، الذي سعت طهران منذ سنوات إلى تعبيده ما بين العراق وسوريا، لتربط أراضيها بالأراضي اللبنانية.
ولا بد من الإشارة إلى أن الإنسحاب الأميركي، يأتي بعد تنسيق مع الأتراك، الذين أعلنوا الإستعداد لمعركة عسكرية في شرق نهر الفرات، ضد المجموعات الكردية. ولم يكن لأنقرة أن تعلن هكذا قرار من دون توافق مع الأميركيين.
التجاوب الإيراني
لكل هذه القرارات، ثمة تداعيات مستقبلية، قد لا تقف عند حدود منع الأكراد من إقامة كيان ذاتي في تلك المنطقة، بل ربما تنتهي بدخول قوات النظام السوري إليها، بإشراف روسي.. وما يعنيه ذلك من تسلل للإيرانيين.
كل هذه الملفات أسهمت في تحريك الوضع الحكومي إيجاباً، خصوصاً أن إيران عملت على تسهيل الولادة الحكومية، بعد تحقيق سلسلة إنجازات سياسية في المنطقة، مقابل التفافها على مسألة العقوبات. وهنا لا يمكن إغفال ملف الأنفاق الذي فتح على مصارعيه دولياً، ودفع الإيرانيين إلى إبداء نية حسنة في تسهيل الولادة الحكومية في لبنان، وما قابل ذلك من مواقف أطلقها نتنياهو، إذ اعتبر أن حزب الله قد عمل على إغلاق مصانع الصواريخ الدقيقة، وبأنه لا يحوي سوى على عشرات منها، وهذا بحد ذاته يعتبر تراجعاً إسرائيلياً عن التهديدات العسكرية.
مردّ كل هذه التطورات يعود إلى الإنسحاب الأميركي السياسي، وتالياً العسكري من المنطقة، مقابل تسلّم الروسي لجملة الملفات فيها، ومن بينها الملف اللبناني، الذي لم يكن ليتحرك من دون ضغط روسي، على مختلف القوى بما فيها إيران وحزب الله. إذ اعتبرت موسكو أنه لا بد من مواكبة كل هذه التسويات بتقديم حسن نوايا في لبنان، ولمواكبة جلسات مجلس الأمن حول الوضع في الجنوب، بتوافق سياسي حول الحكومة. مع الإشارة إلى أن الضغط الروسي هو الذي دفع الوزير جبران باسيل إلى التراجع عن الثلث المعطل.
الحدود والنفط
في مقابل هذا التقدم الروسي، فإن واشنطن تعتبر نفسها، غير متضررة من كل ما يجري. فهي قادرة على الاستثمار في إطالة أمد الصراع بين إيران ودول الخليج، وهذه المرّة بشكل أكبر، على إثر سلسلة الإنجازات الإيرانية المتحققة، والتي قد تدفع الخليجيين إلى الإرتماء أكثر في الحضن الأميركي والإسرائيلي، بحثاً عن رد اعتبار، وإعادة إحياء توازن القوى مع طهران. ولا يبدو أن التدخل الروسي سيقف عند هذه الحدود، بل سيطال تسوية الملف الأساسي في الجنوب بعد معضلة الأنفاق، إذ ستضطلع موسكو بمفاوضات غير مباشرة بين الإسرائيليين والإيرانيين وحزب الله، لإنجاز التسوية الحدودية.. والنفطية ربطاً بها. في المقابل سيستمر التعاطي الأميركي بالجملة وليس بالمفرق، على نحو لا تعنيه التفاصيل ولا الأسماء. بالنسبة للأميركيين، وطالما أن موسكو وتحت جناحيها إيران وحزب الله يوفران هذه المصالح، فلا بأس من تقدّمهم والتسليم لهم. وإذا كانت ولادة الحكومة تعني انتصار حزب الله ومن خلفه إيران في لبنان، فإن التطورات الأخيرة في المنطقة، ولا سيما الإنسحاب الأميركي من سوريا ووضع الحديدة تحت وصاية أممية، يعني تحقيق انتصارات روسية وتركية وإيرانية، مقابل هزيمة مدوية للعرب.