مأزق إكمال تشكيل الوزارة العراقية صدَّق الرؤيا، وأكد الهواجس والظنون والتوقعات، وأثبت أن الذي يحكم الشعب العراقي ليس هو رئيس الجمهورية، ولا رئيس الحكومة، ولا حتى الوزراء والسفراء والأحزاب والكتل والتيارات السياسية والدينية كلها، ومنها، بل أولُها، جيوش هادي العامري وقيس الخزعلي ونوري المالكي ومقتدى الصدر، أجمعين.
 
فقد تبين بكل وضوح أن هؤلاء، جميعا، ليسوا أكثر من موظفين مستأجَرين يتم اختيارهم وتحديد واجباتهم ورسمُ خرائط تحركاتهم وتصريحاتهم بدقة وإحكام من قبل عفريت خفي لا يُرى بالعين المجردة.
 
لكن هذا كلَّه لا يعنينا هنا في هذه المقالة، أما الذي يحرق قلوبنا ويزيد ضغط دمائنا، ويضاعف مستوى السكر في عروقنا، ويضيق أنفاسنا، فهو هذا الصمت العجيب الغريب الذي تلبَّس الشعب العراقي، في سبع عشرة محافظة، وجعله يرى ويسمع ويلمس ما يجري في محافظة البصرة من كوارث ويسكت ويطنش، وكأن الأمر كله لا يجري في عقر داره هُو، بل في الكونغو أو نيكاراغوا أو جزر الواق واق.
 
هل تذكرون كيف كان الشعب العراقي، من أول أيام العهد الملكي وحتى مجيء الراحل صدام حسين، يهبّ عن بكرة أبيه، ويخرج إلى الشوارع إذا أساء شرطيٌ واحد أدبه مع مواطن، أو إذا فكرت الحكومة، مجرد تفكير، في رفع أسعار الطماطم والخيار والماء والكهرباء بأربعة فلوس أو بخمسة؟
 
أما اليوم فأمره عجيب وغريب. ترى هل السبب يكمن في شطارة المتنفذين الكبار الذين تمكنوا من تفتيت الشعب العراقي الذي كان واحدا حتى جعلوه شعوبا وقبائل غير متعارفة وغير متآخية لا بالهوية الوطنية ولا بالقومية ولا بالطائفة ولا بالدين؟
 
فقد صار لهادي العامري شعب، ولمقتدى شعب، وآخر لعادل عبدالمهدي، ولأربيل شعب، وللسليمانية شعب، وللمرجعية في النجف شعب، ولكل رئيس حزب أو كتلة أو تيار سني شعبٌ خالصٌ له لا يعرف غيره، ولا يَحني رأسه إلا لهُ وحده لا شريك له، ولتذهبْ الوطنية والشهامة والأمانة والنزاهة، كلُها، بعد ذلك، إلى جهنم وبئس المصير.
 
حتى صار الوطن العراقي، من البصرة الغارقة بالمياه الآسنة إلى آخر حدود كردستان العراق، في كفة، وفالح الفياض في الكفة الثانية، ولن تسير السفينة إلا إذا دخل عرينه في وزارة الداخلية، غصبا، ورغم أنوف المعترضين والمترددين.
 
صار الوطن العراقي، من البصرة الغارقة بالمياه الآسنة إلى آخر حدود كردستان في كفة، وفالح الفياض في الكفة الثانية، ولن تسير السفينة إلا إذا دخل عرينه في وزارة الداخلية، غصبا
 
فمنذ انتهاء الانتخابات الأخير في مايو الماضي ولا شغل لرؤسائنا وقادة أحزابنا وحسينياتنا وجوامعنا وإذاعاتنا وفضائياتنا غير البحث عن حلاّل لعقدة وزارة الداخلية وفالح الفياض، رغم كل ما عليه من مآخذ، وكل ما يدور حوله من شبهات فساد، واستغلال وظيفة، وتَخابر مع دول أجنبية.
 
ويستغرب العراقيون كثيرا سرعة توزيع الوزارات (الحلوب) على المحظوظين المشمولين بعطف الباب العالي في طهران، من سنة وأكراد، ليس مكافأةً لهم على دخولهم خيمة مشروع الإمام الخميني، بل لجعلها سلاسل من حديد في أيديهم وأقدامهم، من الآن وحتى موعد المُقدر والمكتوب.
 
ففي جلسة واحدة لبرلمان محمد الحلبوسي وأحمد الجبوري (أبي مازن) وقيس الخزعلي تم منح وزارة المالية لكاكه فؤاد حسين، ترضية لرئيسه كاكه مسعود، وأهديت وزارات التجارة والصناعة والزراعة والتربية والاتصالات لـ”ثوار العشائر” العرب السنة المبارَكين قطَريا وتركيّا، دون جدال.
 
أما وزارة الداخلية ووزارة الدفاع فأمرهما جلل. فهما أهم لدى الحاج قاسم سليماني من وزارات العراق وأنهاره وسهوله وجباله كلها، ولن يقبل بأن يتربع على عرشيهما إلا من خلصت نيتُه، كاملةً، لخدمة دولة وليه الفقيه، حصرا، ومَن حلف اليمين متعهدا بالحفاظ على أمنها وبقائها ومستقبلها، والموت في معاركها مع أعدائها.
 
والمضحك المبكي أن حكومة عادل عبدالمهدي والبرلمان والأحزاب والميليشيات والمرجعيات العراقية، ليست وحدها المشغولة بترضية فالح الفياض، بل إن معها أمةَ لا إله إلا الله، وأمة السيد المسيح، وشعبَ الله المختار، من شرق الكرة الأرضية إلى غربها، كلٌ يدلو بدلوه، ويبذل جهده ليُعين على حلحلة العقدة المستعصية على الحل.
 
أميركيون وبريطانيون وفرنسيون وقطريون وأتراك وإسرائيليون وروس يتقاطرون على بغداد، كل يوم وكل ساعة، بالجملة والمفرق، أو يهاتفون هذا وذاك من أولي الأمر في العراق لحثهم على إيجاد مَخرَج عاجل وآمن من هذه المهزلة، قبل فوات الأوان.
 
هذه هي المشكلة اليوم. فإيران لا ترى، أو لا تريد أن ترى في الشعب العراقي كله، بالملايين من أبنائه الخبراء والعلماء وأصحاب التخصصات العلمية العليا المدنية والعسكرية، أصلح وأنسب لوزارة الداخلية من فالح الفياض.
 
ألا يتوجب علينا أن نبارك أيَّ عراقي شهم وشريف وصاحب ضمير وطني حي يرى هذا المنكر الإيراني المهين فيردُّ عليه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهو أضعف الأيمان؟