لن يتوقف بشار الأسد كثيراً، عند ما سيكتب عن معاني زيارة الرئيس السوداني عمر حسن البشير له في دمشق، من وجهة نظر الدوليين والحقوقيين والليبراليين. لن يدقق في المقاربات التي ستعتبر أن الزائر لا يملك فوائض شرعية يضفيها عليه، وهو أول رئيس في العالم تصدر بحقه مذكرة توقيف من محكمة الجنايات الدولية، ولو رفضت من الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي، ودول مثل الصين وروسيا. أي من هذه الاعتبارات لا يدخل في حسبة دمشق. فما ارتكبه النظام السوري بحق شعبه يقزم سجل سواه في المجالات المشابهة.
ما يهتم به الأسد، هو أن البشير يزور دمشق بصفته أول رئيس عربي منذ أن أخرجت سوريا من جامعة الدول العربية في مثل هذه الأيام من عام 2011. ولم يكن بغير دلالة، في هذا السياق، أن الكلمات القليلة التي أدلى بها الأسد خلال الزيارة تمحورت حول فكرة عروبة سوريا، بقوله: «إن سوريا وعلى الرغم من كل ما حصل خلال سنوات الحرب، بقيت مؤمنة بالعروبة ومتمسكة بها». وما يعنيه هذا الكلام أن الأسد يعلن أن التطبيع العربي معه بات مسألة وقت قصير وشكليات، وهذا انتصار كبير له، بعد أقل من ثماني سنوات بقليل على الثورة السورية ضده.
زيارة البشير إلى سوريا هي الإشارة الأقوى على هذا الاتجاه المتنامي. سبقت ذلك ضجة إعلامية كبيرة، حين التقطت عدسات المصورين «لقاءً» هو الأول من نوعه منذ 2011، بين وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة، ونظيره السوري وليد المعلم، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. بعدها صرّح الوزير البحريني بأن «اللقاء لم يرتب له مسبقاً، ولكنه يأتي ضمن الحراك العربي لحل الأزمة السورية».
ولعل الإمارات كانت سباقة في بدء هذه المراجعة، بتصريح وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، أنور قرقاش، بأنه «كان من الخطأ إبعاد سوريا عن الجامعة العربية؛ لأن القرار أقصى القوى العربية التي وجدت نفسها مستبعدة من الاجتماعات المتعلقة بسوريا»؛ معتبراً أن هذا يعني «أنه ليس لدينا نفوذ سياسي على الإطلاق، ولا قناة مفتوحة، ولم نتمكن من تقديم منظور عربي لكيفية حل القضية السورية».
وأضيف ما سمعته مباشرة من مسؤول خليجي بارز، أن الموقف العربي يجب ألا يستمر مبنياً على معطيات عام 2011، بعد كل التغييرات التي طرأت على مشهد الأزمة السورية، وأن تترك دولة عربية ليقرر مصيرها الروس والأتراك والإسرائيليون والإيرانيون والأميركيون.
كل هذا صحيح؛ لكن يبقى السؤال: هل يمكن الوثوق بالأسد؟ وهل يمكن الركون إلى أنه لن يقفز من بوادر التطبيع معه إلى اعتبارها انتصاراً لسياسته وتموضعه وتحالفاته؛ بل مقدمة لتصفية الحسابات مع خصومه؟
لا توجد إجابات سهلة أو قاطعة على هذه الأسئلة. فالمقاربة كلها محفوفة بالمغامرة ومحكومة بمتغيرات متسارعة جداً. فالتلاقي بين الأسد وبعض خصومه على الموقف السلبي من سياسات تركيا، لا يشكل أرضية صلبة لنقل العلاقات من حيز التقاطع الظرفي إلى حيز بناء سياسات تمتلك حداً أدنى من التوجه المشترك، أو المصلحة العربية المشتركة. كما أن تركيا، التي بالمناسبة تتمتع بعلاقات مهمة ومتنامية مع السودان، قادرة على إيجاد تفاهماتها الخاصة مع الأسد؛ لا سيما حول الموضوع الكردي. وإيران الغارقة في أزمة العقوبات الداخلية لا تزال لاعباً كبيراً في سوريا، باعتبارها الأكثر انتشاراً على الأرض، عبر الميليشيات الشيعية من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان وغيرها.
وإسرائيل التي استأنفت بحذر ضرباتها ضد «الحرس الثوري» في سوريا، محكومة بضوابط، لا سيما روسية، لا حصر لها في مواجهتها مع إيران، وتعرف أن أي مواجهة حاسمة لم يحن أوانها بعد، وقد لا يحين، في ظل الكلفات المتوقعة للحرب. أما أميركا فتبدو متعثرة وهي تنتقل بمهمتها السورية من نطاق تصفية «داعش» إلى نطاق مواجهة إيران وميليشياتها، مع ملاحظة تطور في حدة الموقف الأميركي من الأزمة السورية.
أما روسيا، فتدير موقعاً لها في سوريا بالغ الحساسية، يجمع بين محاولة مراضاة المصالح العربية، وضمان أمن إسرائيل، وبين حاجتها الميدانية لإيران، وبين تنافسها الاستراتيجي مع تركيا.
يدرك الأسد كل هذه التناقضات على الأرض السورية، وهو قد سعى لخلق جزء كبير منها، وتدرج في تحويل السردية السورية من ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة إلى مكافحة إرهاب، وصولاً إلى إعادة سوريا إلى لعبتها التقليدية، وهي الاستثمار في ريع الموقع الجغرافي والتقاطعات الدولية على ساحته.
تجربة الأسد تشي بأنه قد يكون أقرب إلى استثمار هذه الفرصة المتاحة انتقاماً ونكداً وكيداً. فليس قليلاً عدد المحاولات التي جرت في السابق لاحتواء النظام وإخراجه من أزمات سياساته، منذ الثمانينات وحتى مبادرة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وثبت في كل مرة فشل المحاولة.
لا شيء يوحي أننا أمام معطيات مختلفة الآن، وأخطر ما في هذه اللحظة هو الإجابات المتسرعة، حول كيفية التعامل مع «سوريا الأسد».