في عنوانها المكشوف، توصف الأزمة الحكومية في أنّها سنّية الطابع، يختصرها مطلب نواب «اللقاء التشاوري»، يدعمهم «حزب الله»، بالتوزير، أصالة أو وكالة، اذا ما جرى إقناعُهم بالتحوّل من مرشّحي وزراء إلى صانعي وزير.
ولكن في المخفي منها، تتخطى الأزمة برمزيتها، مسألة تمثيل النواب السنّة المؤيدين للمقاومة، ومكابرة رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري في المقابل عبر رفضه الاعتراف لهؤلاء بحيثية شعبية أولاً، وبحيثية سياسية ثانياً، تسمح لهم بمشاركته طاولة مجلس الوزراء، وكسر احتكاره زعامة طائفته، أو بالأحرى اعترافه بالتعدّدية السياسية داخل بيته السنّي.
هي أزمة حكم تعكس نزاعاً خفيّاً يفترض أن يحسم معادلة الحكومة العتيدة، شبيهاً ببعض نواحيه بذلك الذي دارت رحاه قبيل تأليف حكومة سعد الحريري الأولى، وقبيل تأليف حكومة تمام سلام، حول مَن يمسك «الثلث المعطل». إذ يحاول كل فريق دفع خصومه وحلفائه على حدّ سواء، الى الحافة ليفرض عليهم التنازل عنوة وليكون من كيسهم، لتأمين ولادة الحكومة.
لم تعد خافية أهمية الحكومة العتيدة في كونها استثنائية المهمات، في ولايتها الدستورية، وتلك الافتراضية إذا ما حلّ الشغورُ الرئاسي مرة جديدة على قصر بعبدا. إذ ينتظر أن تعمّرَ هذه الحكومة أربع سنوات في الحدّ الأدنى، وفي الحدّ الأقصى قد تستمرّ أكثر بكثير إذا ما قدّر لها أن تملأ فراغاً رئاسياً محتملاً، ما يحوّلها حكومة الـ»30 رئيساً».
ولهذا تتعامل قوى الصف الأول مع مسألة التأليف بمقدارٍ عالٍ من الحساسية والاعتبارات الدقيقة، التي تحول دون تقدّم أيّ طرف خطوة إلى الوراء كون كلفتها ستكون عالية.
بهذا المعنى يرفض رئيس الحكومة تقديم مقعد جديد من حصته الخماسية لمصلحة خصومه، بعدما أبدى استعجاله، لا بل مارس ضغوطه على كلٍّ مِن معراب والمختارة لمعالجة العقدتين الدرزية و»القواتية»، دافعاً إياهما إلى تقديم ما يكفي من التنازلات المسهّلة لعملية التأليف تحت عنوان «القبول بما هو معروض أو البقاء خارج الحكومة». حينها تفيد المعلومات أنّ الحريري تحصّن بغطاءٍ سعوديّ تمكّن رئيس الحكومة من تأمينه لكي يسحب من يديّ «القوات» والحزب التقدمي الاشتراكي صاعق التعطيل عبر إقناع المسؤولين السعوديين أنّ تسهيل مهمة تأليف الحكومة ضمن موازين القوى الآخذة في التغيّر السريع، هو أقلّ كلفة من الرهان على عامل الوقت لدفع الخصوم إلى التراجع في موقفهم.
ولكن مع الملف السنّي، الذي نقل المعركة إلى داخل البيت، بعدما كانت في الحديقة الخلفية، اختلفت المقاربة كلياً. يقول المطلعون على موقف الحريري إنه لا يملك أصلاً ترف التنازل عن مقعد إضافي من حصّته، وهنا جوهر الأزمة. هو يعرف جيداً أنّ هامش اللعبة محصور بين وبينه رئيس الجمهورية. على أحدهما أن يقلّصَ حسابَه الوزاري لتسهيل التأليف.
«حزب الله» حسم موقفه: لا عودة إلى إلى الوراء. ولا بدّ من وزير سنّي محسوب حصراً وعلناً على قوى الثامن من آذار.
ولكن في المقابل، لا يتصرف الحريري، أقلّه حتى الآن، من موقع الضعيف أو «المضغوط»، المستعجل إلى حياكة حلّ. لا يبدي أيَّ مرونة أو نيّة للقيام بأيِّ خطوة تراجعية. لا بل يزداد تشدداً وتصلّباً.
خلافاً لما هو سائد عنه، بات رئيس الحكومة مقتنعاً بأنه على رغم كل الخسائر التي تكبّدها، والتنازلات التي قدّمها طوعاً منذ قرّر القفز إلى ضفّة الخصوم لانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية بعد تسوية ثنائية، ومن ثمّ القبول على مضض بالنسبية نظاماً لقانون الانتخابات، لا يزال يمتلك هامشاً لا بأس به من القدرة على المناورة ومقاومة الضغوط بعدما بلغ الموسى ذقنه، انطلاقاً من أوراق قوة لا تزال في جعبته ويمكنه الركون إليها في مواجهاته.
هو يملك ختم توقيع مرسوم التأليف، وهو مطمئنّ إلى أنّ بديله لا يستطيع تأمين الاستقرار السياسي في ظروف صعبة، يعرف «حزب الله» أنه في أوج الحاجة إلى هذا الاستقرار وإلى تعدّدية سياسية تقيه شرّ العواصف الغربية، حتى لو تأمّنت غالبية نيابية قادرة على تسمية رئيس حكومة من صلب الثامن من آذار... وطالما أنّ الظروف المحيطة تتّجه إلى مزيد من التعقيد والضغط على لبنان خصوصاً لجهة تفعيل العلاقات اللبنانية - السورية في ضوء تغيّر موازين القوى، فإنّ حكومة تصريف الأعمال تبقى في هذا الوقت الضائع، أقلّ الأضرار المتوافرة، بنظر الحريري.