أسقط النظام الإيراني تماماً، شعب العراق من حسابات صراعه مع الولايات المتحدة؛ عندما ربط مخرجات الانتخابات بنتائج ترشيحات الرئاسات الثلاث، وشبهها بالفوز بفارق ثلاثة أهداف مقابل لا شيء، كما هو الحال في مباريات كرة القدم. على الرغم من الدور الاستراتيجي الأميركي بعيد المدى، الذي يَعتبر تواجده في العراق أبعد من مجرد تعداد لقواته العسكرية على الأرض ومحدودية واجباتها في هذه المهمة أو هذه الفترة وتلك.
العراق في العمق بالنسبة للولايات المتحدة على اختلاف الإدارات في البيت الأبيض تحوّل إلى قاعدة دبلوماسية واستخباراتية وموطئ قدم أمني ومعلوماتي في الشرق الأوسط وفي منطقة دول غرب آسيا، تتعدى فيه الاستحكامات واجبات القواعد العسكرية الصريحة المتناثرة بالمئات على خارطة توزيع مهام القيادات العسكرية ونفوذها الجغرافي في العالم.
بهذا المعنى تكون الأهداف الإيرانية في المرمى الأميركي قصيرة الأمد والنظر إن في منظور العقوبات أو عدمها وغياب تأثيرها، أو في حسابات منطق دولة الاحتلال العظمى ورعايتها لحالات التسلل الإيراني، بغض الطرف عن العملاء وشهيتهم المفتوحة لتسلم السلطة والسيطرة على المال العام وتشكيل الميليشيات والمافيات والتعمد في فتح أبواب المحاصصة داخل النظام السياسي لتوسيع خلاف المكونات بالحرب الأهلية الطائفية والقومية والدينية، وتصعيد الخوف بتسخين مفهوم الأقليات، وصولاً إلى تقسيمات الجنس والتمييز العنصري التقليدي بسبب لون البشرة، إضافة إلى ما لحق بتجمعات إنسانية من تهميش ولا مبالاة أدت إلى هلاك الأطفال والنساء وكبار السن بالموت جوعاً ومرضاً بمبررات مهينة للعقل البشري.
الاحتلال الأميركي أنجز مهماته في الأشهر والسنوات الأولى، ليترك المجال منسحباً في سفارة أو مشاورات وزيارات وترتيب أوراق خاصة، وأيضاً لمراقبة المشروع الإيراني وهو يسري في هشيم العراق مدفوعاً برياح وأهواء الانتقام التاريخي البعيد من حوادث ومواقف أغلبها نتاج مخيلة غارقة في كراهية كل ما هو عربي، وبذاكرة قريبة لفشل مبكر من عمر نظام ولاية الفقيه في مواجهة العراق بحرب تأكدت فصولها بمعارك دامية، خرج منها العراقيون أكثر ثقة بما يوحدهم مع أبناء وطنهم وكذلك أمّتهم رغم التداعيات التالية. تلك الحرب صنع منها العراقيون رقماً صعباً وسداً منيعاً في وجه طموحات المشروع الإيراني الذي وضع العراق هدفاً أولياً على طريق صادرات إرهابه إلى أمتنا العربية والعالم.
ملالي إيران أفصحوا عن جملة مخططاتهم وتفاعلات كبتهم إثر هزيمتهم في حرب الثمانينات من القرن الماضي، بتوفير قواعد لعبة الوسطاء بينهم وبين الولايات المتحدة باحتكار أكثر من مزدوج للأحزاب الطائفية العميلة والتي انتقلت عملياً للقتال ضد جيش وشعب العراق وتمرست على الخيانة واصطياد فكرة المعارضة للنظام باغتنام فرصة تواجد معارضة سياسية مبعثرة في الخارج، التقت مع الاهتمام الأميركي في جذب واستقطاب تلك القوى ورعايتها، رغم ما تمتلكه الولايات المتحدة من معلومات وملفات عن نوعية الأحزاب وصلتها بإيران مع دراية ومعرفة بالشخصيات الفاعلة في المعارضة.
لذلك فإن مباراة إيران والولايات المتحدة، في العراق والفوز الإيراني بثلاثة أهداف مقابل لا شيء، على حد وصف قيادات الحرس الثوري؛ لا تعني إلا مزيداً من الاستخفاف الإيراني بعملائهم في السلطة، لإظهارهم أمام شعب العراق بلا هوية وطنية أو صلاحية، لتلاعبها بمصير الانتخابات والترشيحات ولفرض إرادتها في اختيار التوافقات وتوقيتاتها والتدخل في تنصيب بعض الوزراء، واختيارها العقاب حتى لبعض عملائها على تصريحاتهم كجزء من التدريب والالتزام بأدوارهم المحددة بعدم الخروج على النص الإيراني ولو من باب مجاملة العملاء للاحتلال الأميركي.
دون سابق توطئة خرجت علينا بعض الاكتشافات الإعلامية من أحزاب السلطة بتساؤلات عن كيفية دخول قائد فيلق القدس الإيراني إلى العراق من دون بروتوكولات دبلوماسية أو موافقات مسبقة أو منهاج أو أسباب للزيارة؛ والأمر وإن بدا تهكمياً إلا أنه في المحتوى كان اعتراضا استثنائيا ومباغتا لا يتناسب والحدود المفتوحة لتسهيل تنقل الميليشيات والعدد غير المحدد لمهمات تستدعي حضور قاسم سليماني لتبليغ العراقيين وتذكيرهم بهامشية قرارات قياداتهم قياساً إلى مركزية القرار الإيراني في العراق، مع ما يعنيه ذلك الحضور من رسائل موجهة إلى الجانب الأميركي تؤكد على ملكية إيران الصرفة لعملاء السلطة، والتذكير بأنّ عمالة حكام العراق للولايات المتحدة هي خط آخر للسياسة الإيرانية وإرادتها في إدارة شؤون العراق.
الأزمة في النهاية تتعلق بحجم الاستهانة بشعب العراق الذي يؤدي دور الكرة ورمزيتها في توصيف الفوز الإيراني على الأميركي بثلاثة أهداف، لأن الشعب في جزء منه ذهب إلى صناديق الانتخابات رغم عزوف الأكثرية عن التصويت، ولأنه سمح طيلة سنوات الاحتلال بتمرير مخططات الفتنة الطائفية بالانجرار خلف منهجية نظام سياسي فوضوي، انتهى إلى السقوط في استدراج الإرهاب والفساد ونقص الخدمات وتدمير الصحة والتعليم والبيئة إلى إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين الذين أحرقوا القنصلية الإيرانية في البصرة والمقرات الحزبية والميليشياوية وصور الخميني في الشوارع، رغم أن تلك الصور محل قداسة على مكاتب بعض المسؤولين.
الموصل والبصرة خلاصتا المشهد العراقي للمرحلة المقبلة، بانفلات الانقسام المجتمعي من قبضة الإملاءات الطائفية والخطابات الميليشياوية إلى مرحلة اليقين بالمواطنة والبحث عن إجابة صريحة وواضحة ترفض منطقة الرماد في ولاء زعماء العملية السياسية للعراق أم لإيران، أو بتعبير أكثر دقة هل هم عراقيون أم إيرانيون؟
تتراجع التحالفات أو تتبرأ من ترشيح فالح الفياض لوزارة الداخلية، كذلك فعل رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، وكأن ترشيحه تهمة لم ينكرها سوى نوري المالكي بل تلقفها بالإصرار عليه في إشارة لتبنيه مصدر الإرادة الغامضة وراء الترشيح.
هل هي بداية انقسام معسكر الموالين لمشروع ولاية الفقيه إلى جهة تضم المتطرفين من العملاء الذين قاتلوا ضد وطنهم الأم في الحرب وساهموا في التعجيل بالغزو الأميركي للعراق، وجهة أخرى تضم من يمكن تسميتهم بالمعتدلين في ولائهم العقائدي لإيران مع عدم نسيان انتمائهم الوطني للعراق.
عدم المجاهرة بالتدخل الإيراني سواء في حالة الرفض والقبول، توضح لنا واقع دولة الميليشيات؛ دولة الخوف من التصفيات، ومنها ما هو محتمل ضد شخصيات منقوصة الولاء للمرشد الإيراني؛ بمعنى أن الحرب الخفية بين الأحزاب الطائفية والتحالفات الموالية لإيران بشخوصها السياسية والدينية صارت حقيقة بعد تمرد أهل البصرة على الميليشيات وكسر حاجز الصمت والخوف بعد مقتل المتظاهرين، وما سبق ذلك من تمرد الناخبين على صناديق المحاصصة والفساد.
رد الفعل أدى إلى تصيد الآراء الإعلامية حتى للمحسوبين على المشروع الإيراني، الذين طفت على لغتهم بحكم تقادم سنوات عودتهم إلى الوطن، بعض الميول العقلانية لتجاوز لغة العنف والمحاصصة والاستقواء بالسلاح؛ للتأكيد على مدى جدية النظام الإيراني وميليشياته في الاستحواذ والسيطرة على العراق بحسابات جديدة هذه المرة تأخذ بعين الاعتبار مردود العراق في كسر العقوبات وتجهيزه كمعبر تهريب للإرهاب والعنف والمخدرات، رغم أن مصطلح التهريب لا معنى له في الحدود المفتوحة بين إيران والعراق منذ اليوم الأول للاحتلال.