تتفق معظم القوانين المنبثقة عن الدساتير المعاصرة، على تحديد سن أدنى للزواج، وذلك فيما يخصّ المرأة أو الرجل.
تلك القوانين، راعت مصلحة الطرفين المشاركين في العلاقة الزوجيّة، بحيث لا يعاني أحدهما، من جراء تغوّل بعض العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعيّة، والتي قد تضرّ بالصحة النفسيّة أو الجسديّة لأي منهما.
في مصر على سبيل المثال، تحدّد المادة رقم 17 من القانون رقم 1 لسنة 2000م، الحدّ الأدنى لسن زواج الشريكين بحيث "لا تقبل الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج إذا كانت سنّ الزوجة تقلّ عن ست عشرة سنة ميلادية او كان سن الزوج يقل عن ثماني عشرة سنة ميلادية وقت رفع الدعوى...".
هذا في الوقت الذي يتمسّك فيه الكثير من المتديّنين ومن أصحاب التوجّهات الأصوليّة، ببعض النصوص والتفسيرات التراثيّة التي تبيح الزواج بالفتاة الصغيرة غير البالغة، وهو ما يفتح الباب أمام حالةٍ متجدّدة من الجدل بين النص التراثي الذي يستمدّ شرعيته من التفاسير الدينيّة المقدّسة من جهة، والقوانين الوضعيّة المنبثقة عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقيم الحداثة، بل وقيم الدين الإسلامي نفسه، من جهة أخرى.
أجمع الكثير من علماء المسلمين المعاصرين، على ضرورة توخّي الحذر في مسألة زواج الصغيرات وعلى حتميّة تقييده في الوقت الحاضر، كالفقيه السعودي الشهير محمد بن صالح العثيمين، الذي قال في إحدى محاضراته:"الذي يظهر لي أنه من الناحية الانضباطيّة في الوقت الحاضر، أن يُمنع الأبُ من تزويج ابنته مطلقاً، حتى تبلغ وتُستأذن... فمنع هذا عندي في الوقت الحاضر متعيّن، ولكلّ وقت حكمه".
شارك
غرديرى المعترضون على زواج الصغيرة، أن ذلك الفعل يتعارض بشكل واضح مع أبسط مبادئ الدين الإسلامي، تلك التي لطالما دعت لحرية اتخاذ القرار، ولا سيما في الأمور الشخصيّة والمسائل الفرديّة، وهو ما يتوافق مع العدالة الإلهيّة وعقلانيّة التكليف وما ينبني عليه من أمور الثواب والعقاب.
كيف تمّ التنظير للمسألة في التراث الإسلامي؟
يستند المؤيّدون لتزويج الفتاة الصغيرة التي لم تصل مرحلة البلوغ، إلى مجموعة من الأصول والركائز يبنون عليها أطروحتهم، أوّل تلك الأصول، هو الرجوع للقرآن الكريم باعتباره المصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامي، حيث يرى أصحاب ذلك التوجّه في الآية رقم 4 من سورة الطلاق، "وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يحضن وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حملهن وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا"، دليلاً على صحّة ما يذهبون إليه.
ما ورد في الآية السابقة، يأتي في سياق أحكام الطلاق، وتحديد العدّة للمرأة التي يتمّ تطليقها، وموضع الشاهد الذي يستدلّ به أصحابُ التوجّه التراثي، يتمثل في أن جملة "وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ"، تشير إلى إمكانية أن يتمّ تزويج فتاة صغيرة قبل أن تصل لسنّ الحيض، وهو القول الذي اتفق عليه كبار المفسّرين، من أمثال الطبري والقرطبي وابن كثير وجلال الدين السيوطي.
فعلى سبيل المثال، يحاول الطبري أن يفصّل المسألة فيقول شارحاً ذلك المقطع، "... وكذلك عدّة اللائي لم يحضن من الجواري لصغرهنّ إذا طلقهن أزواجهن بعد الدخول"، وهو ما يُفهم منه أن الإباحة لم تقتصر على عقد الزواج على الصغيرة التي لم تبلغ بعد فحسب، بل أيضاً أن الإباحة تمتدّ للدخول بها ومعاشرتها جنسياً.
فيما يخصّ السنّة النبويّة، وهي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، فقد ورد في كلّ من صحيح البخاري وصحيح مسلم، عن عائشة بنت أبي بكر أن النبي قد تزوّجها وهي بنت ست سنين، وأنها قد أُدخلت عليه وهي بنت تسع سنين.
وفي السياق نفسه، أوردت المصادر التاريخيّة ومنها على سبيل المثال، "الكامل في التاريخ" لابن الأثير، خبر تزويج أم كلثوم بنت علي لعمر بن الخطاب، وكانت وقتها لم تبلغ الحادية عشر من عمرها.
الإجماع، كان الركيزة الثالثة التي استند عليها المؤيدون لزواج الصغيرة، حيث ذكر أبو الحسن علي بن بطال القرطبي (تـ. 449هـ)، في كتابه "شرح صحيح البخاري": "أجمع العلماء على أنه يجوز للآباء تزويج الصغار من بناتهم وإن كنّ في المهد إلا أنه لا يجوز لأزواجهن البناء بهنّ إلا إذا صلحن للوطء واحتملن الرجال وأحوالهنّ تختلف في ذلك على قدر خلقهنّ وطاقتهنّ".
وأيضاً، ينقل ابن عبد البر (تـ. 463هـ) في كتابه "الاستذكار""إجماع العلماء على أن للأب أن يزوّج ابنته الصغيرة ولا يشاورها". أما عبد الرحمن بن قدامة المقدسي الحنبلي (تـ. 682هـ)، في كتابه "الشرح الكبير على متن المقنع"، فقد أوضح الرأي الراجح المُجمع عليه عند الحنابلة، بقوله "فأما الإناث، فللأب تزويج ابنته البكر الصغيرة التي لم تبلغ تسع سنين بغير خلاف إذا وضعها في كفاءة.
كيف فسّر المعارضون لزواج الصغيرة رأيهم؟
يرى المعترضون على زواج الصغيرة، أن ذلك الفعل يتعارض بشكل واضح مع أبسط مبادئ الدين الإسلامي، تلك التي لطالما دعت لحرية اتخاذ القرار، ولا سيما في الأمور الشخصيّة والمسائل الفرديّة، وهو ما يتوافق مع العدالة الإلهيّة وعقلانيّة التكليف وما ينبني عليه من أمور الثواب والعقاب.
يؤكّد أصحاب هذا الاتجاه، أن الموافقة والقبول من بين الشروط المهمّة التي لا يصحّ عقد الزواج بدونها، ويستدلّون على ذلك بما ورد في صحيح مسلم"لا تُنكح الأيمُ حتى تستأمر ولا تُنكح البِكْر حتى تستأذن"، أي أن موافقة المرأة شرط لا غنى عنه في صحّة الزواج، ولا يمكن التغافل عنه أو تهميشه، بحيث تُزوج البنت بأمر أبيها أو وليّها غصباً عنها أو دون رضاها.
أما فيما يخصّ النصّ القرآني الذي ساقه المجيزون لزواج الصغيرة، ففي تفسيره "التحرير والتنوير"، يخالف الفقيه التونسي المعاصر محمد الطاهر ابن عاشور، معظم المفسّرين الذين ذهبوا إلى أن المقصود باللائي لم يحضن، الصغيرات اللاتي لم يبلغن، حيث يقول بأن الجملة هنا معطوفة على الجملة التي سبقتها، والتي ورد فيها الإشارة للنساء اللاتي بلغن سن اليأس.
مما يتوافق مع ذلك التفسير، أن هناك بعض الأمراض المعروفة علمياً والتي قد تؤدي إلى انقطاع الطمث بشكل كامل أو لفترات متقطعة عند النساء، وذلك لأسباب مختلفة، منها وجود عيوب في الأعضاء التناسلية والحوض، ومنها زيادة أو نقصان في بعض الهرمونات، ومعنى ذلك أنه في بعض الحالات تكون المرأة البالغة المتزوجة تعاني من انقطاع في دورتها الشهرية لعدّة شهور متتابعة، مما يصعب معه الاعتماد على تكرار الدورة في تحديد زمن العدّة، ولذلك حدّد القرآن فترة ثلاثة شهور لتمام العدّة وانتهائها عند ذلك النوع من النساء.
من المهم أن نشير هنا إلى أن ذلك المرض، كان معروفاً في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وكانت المرأة التي تُصاب به تُعرف بالضهياء، وهي بحسب ما يعرفها الفيروزآبادي في القاموس المحيط "المرأةُ التي لا تَحيضُ ولا تَحْمِلُ، أو تَحِيضُ ولا تَحْمِلُ، أو لا يَنْبُتُ ثَدْياها".
مما قد يؤيّد تلك الرؤية، أن الخطاب القرآني من أول سورة الطلاق، قد تم توجيهه بشكل مباشر للنساء، وهو ما ينفي أن تكون الفتيات الصغيرات قد قُصدن أصلاً في أي حكم من أحكام العدّة أو الطلاق، وذلك لأن كلمة النساء يقصد بها الكبار فقط، فعلى سبيل المثال يقول القرطبي في كتابه "الجامع لأحكام القرآن""والنساء اسم ينطلق على الكبار كالرجال في الذكور، واسم الرجل لا يتناول الصغير؛ فكذلك اسم النساء والمرأة لا يتناول الصغيرة...".
أما فيما يخصّ الروايات الحديثة والتاريخيّة التي ساقها الفريق الأول في معرض إثباته لرأيه، فإن العديد من الباحثين قد نقدوا روايات البخاري ومسلم التي قالت بتزويج عائشة للنبي وهي في عمر السادسة، فعلى سبيل المثال قام الباحث إسلام البحيري بتضعيف سند تلك الرواية، واستند لعدد من المصادر التاريخية التي حدّدت عمر السيدة عائشة وقت زواجها بثمانية عشر عاماً.
أما بالنسبة لقصّة زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت علي، وهي لا تزال فتاة صغيرة، فالشكوك تحوطها، وتوجّه لها سهام النقد من أكثر من وجه، خصوصاً وأن تلك القصّة قد تمّ استخدامها فيما بعد في سياق المحاججة والمنافسة المذهبيّة، الشيعيّة-السنّية، فتمّ تعديل وتغيير الكثير من تفاصيلها، وهو ما يدعو لتوخّي الحذر قُبيل الاستعانة بها.
ومما يقف في صف استبعاد تلك الرواية تحديداً، أن الكثير من الأخبار الواردة قد نبّهت إلى رأي عمر بن الخطاب، المعارض لمسألة تزويج الفتيات الصغيرات من الرجال كبار السن، من ذلك ما أورده المتقي الهندي في كتابه "كنز العمال"، عندما ذكر أنه في عهد عمر، تزوّج شيخ كبير من فتاة صغيرة السن، فكرهته، ثم قتلته، فلما عرف عمر بالقصّة، خطب في الناس قائلاً "يا أيها الناس، اتقوا الله ولينكح الرجل لَمَّته من النساء، ولتنكح المرأة لَمَّتها من الرجال"، وكان يقصد باللَمَّة هنا، الشبيه، بمعنى أن يتزوّج الرجلُ، المرأةَ التي تكافئه سناً.
وكذلك ما ورد عن عمر، من قوله"لا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الرَّجُلِ الْقَبِيحِ، فَإِنَّهُنَّ يُحْبِبْنَ مَا تُحِبُّونَ"، ومن المعروف أن الهَرم وكِبر السن يؤديان إلى القبح.
من المهم أن نشير هنا، أنه ليس معنى نفي وقوع حادثتي زواج عائشة وأم كلثوم في سن صغيرة، أن عادة تزويج الصغيرات لم تكن قائمة أو متحقّقة في المجتمعات العربية زمن الرسالة المحمدية، بل إن محورية نفي الحادثتين، تتأتى بالأساس من التأكيد على نفي قيام الرسول والخليفة الثاني بممارسة تلك العادة، لأنها إنما اكتسبت شرعيتها في المدوّنة الإسلاميّة الفقهيّة، من خلال ربطها بكلّ منهما.
"لكلّ وقت حكمه"
وتظلّ المشكلة الأكبر في ادعاء أصحاب الفريق الأول الذاهب لوجود إجماع بين الفقهاء على شرعيّة تزويج الفتاة الصغيرة، حيث ينطوي هذا الادعاء على مغالطة ظاهرة، لأن العديد من العلماء والفقهاء القدامى والمُحدثين، قد نُقل عنهم مخالفتهم لذلك الرأي.
من هؤلاء فقيه العراق وقاضي الكوفة عبد الله بن شبرمة (تـ. 144هـ)، والمتكلم المعتزلي أبو بكر الأصم (تـ. 279هـ)، والفقيه الأندلسي أبو محمد علي بن حزم (تـ. 456هـ). فعلى سبيل المثال، يقول ابن حزم في كتابه "المُحلى": "فِي بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا خِلافٌ: قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: لا يَجُوزُ إنْكَاحُ الأَبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ إلا حَتَّى تَبْلُغَ وَتَأْذَنَ، وَرَأَى أَمْرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خُصُوصاً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، كَالْمَوْهُوبَةِ، وَنِكَاحُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ".
أيضاً فإن الكثير من علماء المسلمين المعاصرين، من مختلف الاتجاهات والتيارات الفكريّة، قد نبّهوا على ضرورة توخّي الحذر في مسألة زواج الصغيرات وعلى حتميّة تقييده في الوقت الحاضر، من هؤلاء الفقيه السعودي الشهير محمد بن صالح العثيمين، الذي قال في سلسلة محاضراته الصوتيّة التي يشرح فيها صحيح البخاري: "الذي يظهر لي أنه من الناحية الانضباطيّة في الوقت الحاضر، أن يُمنع الأبُ من تزويج ابنته مطلقاً، حتى تبلغ وتُستأذن... فمنع هذا عندي في الوقت الحاضر متعين، ولكلّ وقت حكمه".
ومنهم الفقيه الإخواني يوسف القرضاوي الذي صرّح في وقت سابق "لا بدّ من تحديد سنّ معينة، ليتعظ الناس الذين لا ينظرون لمصالح البنات، ولا ينظرون إلا إلى مصالحهم الشخصية... يجب تنظيم الأمر حتى لا يُترك لأهواء الآباء ومصالحهم الشخصية".