سؤال كبير يواجه فرنسا والفرنسيين: كيف سيكون غداً السبت؟ هل ستحترق جادة الشانزيليزيه ومعها شوارع أخرى في مواجهات جديدة لـ "السترات الصفر" مع الشرطة، أم انتهت المواجهات مع خطاب الرئيس إيمانويل ماكرون والتزاماته المالية ووعوده الإضافية حول تحسينات تريح الفرنسيين وتخفف عنهم الأزمات التي اصبحت تتوالى مثل الهزات الارتدادية؟
لا يبدو حتى الآن ان "السترات الصفر" قد اقتنعوا في أكثريتهم بما قدّمه الرئيس ماكرون، لذلك لا بد من العودة الى الشانزيليزيه والتظاهر بقوة. في الواقع ما قدمه ماكرون، لا يحل الازمة وإنما محاولة جادة منه بعد صمت طويل لتهدئة الخواطر. ذلك ان الازمة التي تعاني منها فرنسا قديمة، وهي أعمق بكثير بأسبابها ونتائجها. ولذلك يقال ان ما قدمه ماكرون ليس اكثر من حبة "اسبرو" لمعالجة "مرض" يتطلب اكثر من الدواء، لان المعالجة تتطلب "عملية جراحية" دقيقة يشارك في تشخيصها وتنفيذها فريق عمل متعدد الاختصاصات والقدرات.
السؤال المهم المطروح هنا: هل الرئيس ماكرون قادر على السير في هذا التوجه؟ في الواقع كثير من الفرنسيين يَرَوْن ان ماكرون ليس مؤهلا للعب هذا الدور الا اذا انقلب على نفسه وغيّر من توجهاته بنسبة ١٨٠ درجة. هذا التقييم القاسي ليس من فراغ. ماكرون جاء على ظهر ضعف اليسار وتحديدا الحزب الاشتراكي، واليمين الجمهوري في وقت واحد، وترشح مرشحة اليمين المتطرف ماري لوبن ضده، فاضطر الفرنسيون للاقتراع له بكثافة. المشكلة ايضا انه هو الذي لا يملك تجربة سياسية واسعة، لانه جاء من عالم المصارف الكبرى الى درجة ان الرئيس فرنسوا هولند قال عنه في عز الازمة: "الرئيس ماكرون ليس رئيس الأغنياء وإنما أغنى الأغنياء". ومما رفع منسوب العجز المتهم به انه بدلا من ان يستعين بسياسيين وخبراء مجربين عمد الى دفع المنطق الملكي للجمهورية الخامسة الى أقصى حد، في وقت اثبت فيه "عدم القدرة على الخروج من نفسه لسماع الآخرين"، فعمد الى اغراق السلطة في قصر الاليزيه مما انهك الديموقراطية، وعمق أزمة ليس مسؤولاّ عن نشأتها وتعمقها لان عمرها قبل ان يولد.
الازمة ايضا "تزاوج" الاقتصادي بالدستوري، ذلك ان "الجمهورية الخامسة" التي تعيش فرنسا فيها منذ الجنرال ديغول، قد هرمت ويجب استبدالها، بنظام جديد اي "بجمهورية سادسة وحتى خامسة ونصف" وهذا ما لم يجرؤ الرؤساء فرنسوا ميتران وجاك شيراك وفرنسوا هولاند ونسكولا ساركوزي على الإقدام عليه رغم معرفتهم بوجوب الإقدام على هذا التغيير. وكان التوقع وما زال ان ماكرون الذي ليس مدينا لأحد من القوى السياسية والنقابية في الوصول الى الرئاسة يمكنه ان يدخل تاريخ فرنسا اذا تحلى بالرؤية والشجاعة.
صحيح ان ما تقدمه الدولة الفرنسية مهم جدا من ضمانات وخدمات الى درجة انها المثال في ذلك. لكن منذ اكثر من عشر سنوات ارتفع منسوب الضرائب حتى وصل الى ٤٩ ٪ من الدخل الفردي، اضافة الى ان دور الدولة يتقلص بسرعة، في وقت ارتفعت فيه نسبة البطالة والفقر الى درجة ان اكثر من ستة ملايين فرنسي يعيشون تحت خط الفقر .
انتفاضة "السترات الصفر" لا تشبه ثورة ١٩٦٨ الطلابية ولا بطبيعة الحال ثورات "الربيع العربي"، فهي تجسيد الازمتين الاقتصادية ـ الاجتماعية من جهة ومن جهة اخرى أزمة نظام "الجمهورية الخامسة". وهي لاول مرة في تاريخ الحركات المطلبية من خارج النقابات ومن فعل "المواقع الاجتماعية"... ذلك انه جرت الدعوة الى التجمع للبدء بالتظاهرات من السائقين احتجاجا على رفع سعر الوقود. طبعا وكما يحدث في مثل هذه الحركات انضم اليها اليمين المتطرف واليسار المتشدد والاسوأ مجموعات من "المكسرين" الذين يأتون من الضواحي ومعظمهم من العرب والأفارقة المهمشين، فيفجرون غضبهم ضد السيارات عادة لكنهم هذه المرة استغلوا جادة الشانزيليزيه التي تضم اهم المتاجر الغنية بكل ما هو مرتفع الثمن وعاثوا فيها فسادا وسرقة واشعال النيران فيها .
كل شيء يتوقف الآن على ما سيحدث نهار غد السبت مع وجود إمكانية انضمام الطلاب خصوصا من الثانويات الذين يحتجون على طريقة التعامل مع طلاب مدرسة في الضواحي وتضامنا مع اهاليهم ... فاذا ما حصل ذلك فان الازمة تصبح مفتوحة على احتمالات بعضها خطير مثل اعلان حالة الطوارئ تحت شعار "ان الكثير من الديموقراطية يقتل الديموقراطية" .
أما التوقّع الأهم فهو أن تصبح حركة "السترات الصفر" مثالاً لأوروبا المثخنة بالأزمات، فلا تعود المواجهة فرنسية فقط وإنما أوروبية.