صحيحٌ أنّ العلاقة بين فرنسا والولايات المتحدة تخلّلها مدّ وجزر خلال السنوات الماضية، وصل أحياناً الى حدّ الحرب الباردة عام 2003، بعدما عارضت باريس الاجتياح الأميركي للعراق، متسلّحة بحقّ النقض في مجلس الأمن، إلا أنّ دعوة ماكرون لإنشاء جيش أوروبي يحمي «القارة العجوز» من الولايات المتحدة، شكّل سابقة في قارّة تتكل على حماية واشنطن عبر حلف شمال الأطلسي.
وفيما يتساءل بعض المحللين والدبلوماسيين عن احتمال وجود رابط بين دعوة ماكرون «العسكريّة» واهتزاز أمن فرنسا واستقرارها، يبقى الأهم الإشارة الى بعض النقاط الغامضة وأبرزها:
في 6 تشرين الثاني دعا ماكرون إلى إنشاء جيش أوروبي، وعلى الأثر وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذه الدعوة بالمهينة جداً، وطالب أوروبا أولاً بتسديد مساهماتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) «الذي تموّله الولايات المتحدة إلى حد كبير».
لكن ردود أفعال ترامب لم تُثنِ ماكرون من المضي قدماً في مواقفه، إذ عاد وأضاف بعد أيام عدة، على هامش احتفال فرنسا في ذكرى الحرب العالمية الأولى، انّ على أوروبا أن «تبني استقلالية» دفاعها بدلاً من شراء الأسلحة من الولايات المتحدة.
وأوضح، أنّه «لا يريد رؤية الدول الأوروبية ترفع من ميزانيات الدفاع لشراء أسلحة أميركية»، مشيراً إلى أنّه «إذا زدنا ميزانيتنا، فالغرض بناء استقلاليتنا».
وفي اليوم نفسه لاقى طلب ماكرون صدى في ألمانيا، إذ دعت المستشارة أنغيلا ميركل إلى إنشاء جيش أوروبي متكامل.
كذلك، دعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فكرة إنشاء جيش أوروبي موحّد، من الممكن أن يكون بديلاً عن حلف شمال الأطلسي، ما دفع ترامب إلى الإستنكار مجدداً، لافتاً في تغريدة على «تويتر»، إلى أنّ «المشكلة هي أنّ إيمانويل ماكرون يعاني من هامش شعبية ضعيف جداً في فرنسا (26%) ومعدّل بطالة يقارب الـ 10 في المئة».
وما هي إلّا أيّام، حتّى انتشرت الفوضى في فرنسا كالنار في الهشيم، واستفاق الفرنسيون، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وحتّى أولئك الذين دعموا ماكرون، ليندّدوا بارتفاع الضرائب وتكاليف المعيشة، مرتدين «السترات الصفراء». وسرعان ما تحوّلت الاحتجاجات المحقّة والمُفترض أن تكون سلمية، إلى أعمال تكسير ونهب وحرق ودمار... في مشاهد لم يعتد العالم رؤيتها من قلب العاصمة الفرنسية الشهير بالمتاحف والسياحة والترفيه والجمال.
وتابع ترامب سخريته من فرنسا على «تويتر»، ما دفع بوزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان إلى مطالبته بعدم التدخّل في شؤون فرنسا الداخلية.
ولم تقتصر الفوضى العاصفة بفرنسا على التظاهرات، إذ ضربها الإرهاب منذ أيام في ستراسبورغ، المدينة التي تضمّ مقرّ البرلمان الأوروبي، مخلّفاً قتلى وجرحى ليشكّل «حبّة الكرز على قالب الحلوى» المقيت.
لطالما عُرفت فرنسا بوجهين: وجه يعكس الثقافة والحضارة والتاريخ، امتداداً من المطبخ الفرنسي الشهير بالجبنة والنبيذ، إلى صالونات اللغة الفرنسية الرومانسية والمخملية التي أنتجت أثرى آداب الأمم شعراً وغناءً ومسرحاً وقصصاً وروايات، إلى دور الأزياء الفاخرة والعلامات التجارية العالمية المدونة بأسماء فرنسية على الثياب والعطور.
ماركات بتنا نشاهد متاجرها في باريس مكسَّرة الواجهات ومنهوبة البضائع، في ثورة أذهلت العالم بتوقيتها ولكن، أيضاً بعنفها ونشرها الخراب في كل أنحاء العاصمة، وتحوّلها إلى مواجهات أشبه بحرب الشوارع.
ولكن، إذا كانت فرنسا تُعرف بكل ما هو مخملي ومترف، إلّا أنّها تُعرف أيضاً بالثورة، الثورة الفرنسية! ففي عام 1789 قلبت الثورة موازين فرنسا والعالم، مشكّلة نقطة تحوّل محورية. أما اليوم فأسئلة كثيرة تُطرح؟
هل فعلاً يتحكّم وجع الناس وخوفهم على لقمة عيشهم في هذه الثورة؟ وهل سيشكّل نشر الخراب في الشانزيليزيه نقطة تحوّل إيجابية في فرنسا وحياة شعبها؟ أم أنّ أجهزة خارجية تدخل على خط الاحتجاجات وتحرّكها، بغية توجيه رسالة واضحة لماكرون، تدعوه إلى الانشغال بحماية نفسه وحكومته وولايته، وتدير أنظاره وأنظار العالم عن الحلم بتشكيل جيش أوروبي في وجه القوى الأخرى، خصوصاً أنّ خراب التظاهرات غير السلمية يتزامن مع استفاقة الإرهاب، الذي عاد ليطل بذيله من فرنسا؟