عندما يطلق الرئيس التركي العنان لحملته العسكرية ضد «قوات سوريا الديموقراطية» في الشمال السوري، أي ضد الأكراد تحديداً، فإنّ الأكثر ارتياحاً في سوريا لن يكون النظام ولا «الجيش السوري الحرّ» بل «داعش».
فصحيح أنّ هذا التنظيم لم يعُد يسيطر إلّا على 2.4% من مجمل الخريطة السورية، تحت وطأة الضربات التي وجّهها إليه التحالف الدولي، بعدما وصل هو وحلفاؤه إلى نحو 50% في بعض المراحل، إلّا أنّ كثيراً من التقارير تحدّث أخيراً عن حراك جديد بدأه «داعش»، يستفيد من حال الانقسام والتضعضع التي يعيشها خصومه.
أساساً، المعارك الكبرى خاضها التنظيم في سوريا لم تكن في مواجهة النظام بل في مواجهة معارضيه. وتردّد كثيراً في أوساط «الجيش الحرّ» أنّ النظام يستثمر جيداً في حراك «داعش».
والدليل أنّ الطرفين لم يتقاتلا إلّا في مناطق محدودة. واستند أصحاب هذا الرأي إلى اعتقادهم بأنّ النظام ربما تَمكَّن من خرق التنظيم أمنياً والتحكّم ببعض كوادره وحركتها.
طبعاً، الانطلاقة الغامضة للتنظيم وطريقة توسّعه غير المبرّرة- والتي بقيت مضبوطة في بعض جوانبها- كانتا تدعمان هذه الظنون من دون أن تكون لأحد القدرة على تأكيدها. فالتنظيم إستطاع خلال 3 سنوات من نشوئه، بين 2013 و2016، أن يوسِّع سيطرته بين العراق وسوريا بنحوٍ يثير الاستغراب.
وفي العراق، حيث كانت انطلاقته، استفاد التنظيم من نفوذ إيران والحكم المتحالف معها ليكسب المزاج السنّي القلق، في ظل الظروف التي واكبت إسقاط صدام حسين وإعدامه. فقد كان سُنّة العراق يحتاجون إلى بديل من جيش حزب البعث. وبالأحرى، عمد كثير من البعثيين السابقين، عسكريين ومدنيين، إلى الالتحاق بالموجة «الداعشية» لعلّها توفّر لهم الحماية أو استمرار النفوذ.
لذلك، خلال 6 ساعات فقط، إبتلع تنظيم «داعش» الموصل في صيف 2014. وقد كان مثيراً سقوط كل ثُكَن الجيش العراقي دراماتيكياً بين يديه، لأنّ معظم الضباط لم يقاتلوا بل سلّموه كل شيء.
وفي 2015، تمّ تقدير أنّ ثلث مساحة العراق واقعة تحت سيطرة التنظيم، وخصوصاً في المناطق الصحراوية الغربية حيث تصبح الحدود هشّة مع سوريا.
وفي لحظة معيّنة، كان التنظيم مُمسكاً فعلاً برقعة تجمع أجزاء شاسعة من العراق وسوريا معاً، حيث أُلغيت الحدود في بعض النقاط في المناطق الصحراوية شرق الفرات. وبدا لكثير من المتابعين أنّ ولاية هذا التنظيم ستتكرّس وتدوم وتتَّسع.
لقد حصل التنظيم على دعمٍ ماليّ مختلف المصادر يتيح له الاستمرار: الاستيلاء على المصارف والمؤسسات، المتاجرة بالبشر، السيطرة على احتياطات النفط والغاز، فرض الخوّات والإبتزاز واحتجاز حرّية الأشخاص للحصول على فدية، والتبرّعات عبر العالم والدعم الخارجي غير المنظور، بالمال والعتاد.
لكنّ سرعة سقوط «داعش»، بدءاً من 2016، وخصوصاً في النصف الثاني من 2017، كانت مثيرة أكثر من سرعة نشوئها وتوسّعها. وهذا ما يدفع إلى التساؤل مجدداً: مَن هو «داعش»؟ أيّ لغز ينطوي عليه؟ وأيّ هيكلية تنظيمية تقوده؟
ربما يكون من المبكر اكتشاف لغز «داعش». لكنّ الواضح هو أنّ التنظيم نفسه كان مؤلّفاً من ثلاث طبقات:
-1 طبقة الأنصار العاديين المؤمنين فعلاً أنّ التنظيم يريد إحياءَ الخلافة الإسلامية في العراق وسوريا.
-2 طبقة الكوادر الذين وجدوا مصالحهم في الانضمام إلى «داعش» إما لحماية أنفسهم من الانتقام، لأنهم سبق لهم أن ارتكبوا التجاوزات في مراحل سابقة، وإما لبناء النفوذ والثروة.
-3 طبقة القادة الأساسيين الذين يديرون اللعبة، وهم مرتبطون بجهات وأجهزة خارجية، إقليمية ودولية على الأرجح، توفّر للتنظيم الدعم والتغطية، لتحقيق غايات معينة.
وهناك كثير من التحليلات والتكهّنات حول لغز «داعش». فالبعض قال إنّ قوى دولية أو تركيا ودولاً عربية معيّنة دعمت التنظيم في بعض المراحل، فيما أخرى تحدثت عن دور لإيران، وفقاً لحسابات ومصالح ظرفية. لكنّ أيّاً منها لم يتمكن أحدٌ من إثباته حتى الآن. ويرى كثير من الخبراء أنّ من البديهي استنتاج ما يأتي: إنّ «داعش» إنتهى عندما أنجز الدور الذي أُنشِئ من أجل أدائه.
فمن المعروف أنّ التنظيم الذي يعتمد نهجاً يتنافى مع شرعة حقوق الإنسان ومواثيق الأمم المتحدة ليس مهيّأً أساساً ليكون في أيّ يوم دولةً معترَفاً بها، ولها مكانتها في الحوار على طاولة القوى التي ستتحاور على مستقبل العراق وسوريا وسائر دول الشرق الأوسط.
ولذلك، يُصبح منطقياً الاعتقاد أنّ هناك خطة مدبَّرة وراء ولادة التنظيم واتّساع نفوذه ثمّ إنحساره في عقر داره، أي العراق وبلاد الشام، ولو بقيت مستمرة حتى اليوم، ضمن حدود، في مناطق من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فالتنظيم بدا من العلامات البارزة في مسار «الربيع العربي» وعاملاً أساسياً في تسعير النار وإذكاء روح التطرّف والإرهاب تحت عناوين دينية، وهو اضطلع بدور أساسي في نزاع المحاور الإقليمية والدولية التي ربما استفاد بعضها منه.
ويمكن هنا طرح سؤال: هل كان اتّفاق فيينا بين الولايات المتحدة والقوى الدولية الكبرى مع إيران، حول البرنامج النووي في 2015، عاملاً مساعداً للقضاء على «داعش»؟ وتالياً، هل كان التنظيم يستفيد من النزاع الإيراني- الأميركي لكي ينطلق وينمو؟ وهذا ما يستدعي الاستنتاج: هل هناك ارتباط حالياً بين عودة التوتر إلى العلاقات الأميركية - الإيرانية والحديث المستجدّ عن عودة «داعش» إلى الساحة، بدءاً من العراق؟
في الأسابيع الأخيرة، نفَّذ «داعش» عمليات إرهابية في الموصل وعدد من المدن العراقية التي كان يزرع الرعب فيها خلال سنوات خلت. وقد ينفّذ التنظيم عمليات أخرى، في أماكن أخرى، بالتوازي، إذ يعود إلى استراتيجية «حرب العصابات» التي بدأ بها أساساً. ولهذه العمليات مغزى عميق، لأنه يعيد تسليط الضوء على السؤال: أين ذهب الآلاف من عناصر التنظيم وأنصاره بعد القضاء عليه عسكرياً؟
البعض يقول أيضاً: «قد يكون هناك بديل من «داعش»، أو خَلَف له، كما كان هو بديل «القاعدة». فالإرهاب الإسلامي سلاح أثبت فاعليته التدميرية لشعوب الشرق الأوسط والعالم العربي، وقد يجرى التجديد له، وإن بأشكال أكثر ملاءمة للمراحل المقبلة.